الاثنين، 4 نوفمبر 2013

العرفاء في زمن التقية

العرفاء في زمن التقية  (قبل الثورة الإيرانية)
بقلم : طالب علم

كان المراجع والفقهاء العظام في النجف الأشرف وقم المقدسة يحاربون العرفان المزيّف بكل قوة ويمنعون تدريسه في الحوزات العلمية لذلك كانت تلك الفترة من أشد الفترات صعوبة على العرفاء والمتصوّفة ، فقد كانوا في تقية شديدة جداً لدرجة أنهم يدرسون كتب الملا صدرا في السراديب!!
يقول الشيخ المحمدي الجيلاني: كان يوجد في حوزة قم العلمية المقدسة أشخاص ساذجون فكرياً (العلماء والفقهاء) وذوو نوايا خيرة لكنهم لم يكونوا يحسنون الظن أبداً بالفلسفة والحكمة الإلهية والعرفان، وقد أوجدت معارضتهم لها أجواءً مضادة للفلسفة والعلوم العقلية، كانت من القوة إلى درجة تكفي لاغتيال شخصية كل من يقوم بتدريس الفلسفة ... عن الملا صدرا الذي حكموا بكفره!! فقد بلغ هجومهم ضد آرائه درجة كان الذين يدرسون كتبه يضطرون إلى التخفي في ذلك واختيار السراديب والأماكن البعيدة عن الأنظار لدراسة كتب هذا العالم الجليل.
المصدر : قبسات من سيرة الإمام الخميني - قسم التعليم الحوزوي- ص19.

تلاحظ أخي القارئ الكريم هجوم العلماء والفقهاء على أصحاب العرفان المزيّف وكيف تصدوا لهم وحاربوهم لكي لا ينشروا انحرافاتهم وضلالهم بين الطلبة ، ومن جهة أخرى ترى حالة الخوف التي كان يعيشها العرفاء في ذلك الوقت وكيف كانوا يمارسون التقية الشديدة لدرجة أنهم يدرسون كتب الملا صدرا في السراديب والأماكن البعيدة عن الأنظار!
وحينما حاول الطباطبائي (صاحب الميزان) تدريس الأسفار علناً في قم المقدسة أمر آية الله البروجردي (قدس سره) بقطع راتب الطلاّب الذين يحضرون درسه!
المصدر : الشمس الساطعة ، الطهراني ، ص101.

وقد كان الخميني أحد ثلاثة أشخاص فقط يدرسون كتاب فصوص الحكم لابن عربي عند الشاه آبادي وبعد مدة بسيطة أصبح لوحده!!
ويصرّح الخميني أيضاً بأن الشاه آبادي رفض تدريسه كتاب الفصوص أولاً ثم ألح عليه الخميني وبإصرار شديد حتى استجاب له.
المصدر : العارف الكامل الشاه آبادي, ص12-13 ، قبسات من سيرة الإمام الخميني, الحياة الشخصية, ص349-350.
وكان الخميني في تلك الفترة يمارس التقية الشديدة ولم يكن يظهر آراءه العرفاية الصريحة إلا بعد الثورة , فكتابه (تعليقات على شرح فصوص الحكم ومصباح الأنس) الذي انتهى من تأليفه سنة 1356هـ - لم يطبع هذا الكتاب إلا بعد الثورة بمدة طويلة ، وكانت أول طبعة له سنة 1406هـ - أي بعد خمسين عاماً من تاريخ تأليفه!! وكذلك كتبه العرفانية الأخرى!!
# راجع مؤلفات الخميني العرفانية وقارن بين سنة التأليف وسنة الطبع.

ولقد كان الخميني قبل الثورة يدرّس العرفان لعدد محدود جداً وفي مجالس خاصة بعيدة عن الأنظار!
يقول الشيخ الايزدي: كان (الخميني) يقوم..بتدريس الكتب العرفانية ولكن في مجالس خاصة!!
المصدر: قبسات من سيرة الخميني, ميدان التعليم, 163.
وفي النجف الأشرف كان العرفاء هناك أسوأ حالاً من غيرهم , فقد كانوا يمارسون التقية بشكل أكبر لأن العلماء والفقهاء تصدوا لهم بكل قوة!!
وينقل صاحب كتاب ( مدرسة العرفاء ) تحت عنوان (محنة العرفان ومصائب العارفين) :
عن العارف عبد الكريم الكشميري قال : كان السيد القاضي مشهوراً بالعرفان في النجف ، ولذا كان تلاميذه يحذرون من التردد على بيت أستاذهم خوفاً من ألسنة المعاندين (الفقهاء) فكانوا لا يدخلون داره إلى أن يفرغ الزقاق من المارة!!
ويقول عبد الكريم الكشميري أيضاً : كنت يوماً واقفاً مع السيد القاضي في صحن مرقد أمير المؤمنين عليه السلام فرآني أحد فضلاء الحوزة وأخذ يهز رأسه أسفاً على وقوفي مع السيد القاضي.
وكان آية الله علي محمد البروجردي يقرر درس السيد القاضي فمنعه أحد علماء النجف المعروفين من حضور درس السيد القاضي وقال له: لا تذهب إلى هذه المجالس فتتخلف عن الحصول على درجة الاجتهاد في علوم الحوزة في الفقة والأصول .فكان يأتي سراً ويحضر درس أستاذه!!
المصدر :مدرسة العرفاء, إبراهيم سرور, ج1 ص339, أسوة العرفاء, صادق حسن زادة, ص97- 142.

وينقل أيضاً تحت عنوان (ينبغي المداراة مع الفقهاء) : إن السيد محمد حسن نجل السيد علي آقا القاضي يقول : إن العلماء في النجف الأشرف كانوا يبتعدون ما أمكن عن الخوض في البحوث والمسائل العرفانية وينكرون الكتب المنسوبة إلى هذه الفرقة فإن كتاب ((مولوي)) من الكتب الممنوعة ونادراً ما كان يوجد ضمن كتب الطلبة وكان البعض يغالي بأن كان يأمر بإخراجه من ضمن الكتب الفقهية ، لأنه دنس (كذا) ويجب إبعاده عن الكتب التي تحوي كلام المعصومين عليهم السلام.
وكان له (أي القاضي الطباطبائي) من المعاندين والمخالفين (من الفقهاء) كثرة في النجف الأشرف ، فإذا كان من رأيه مجاملة ومسايرة المجتمع الذي يعيش فيه فإنه من الحزم أن لا يصرّح بشيء من أمثال هذه الآراء (العرفانية) التي بظاهرها تنافي ما عليه جماعة العلماء والفقهاء!!
ولقد ناقشه غير واحد من أخصائه- وأنا بالذات- فكان الجواب الأخير : أتريد أن يذكر في التاريخ بأن القاضي خالف فقهاء زمانه ؟! ولا أريد أن أذكر هكذا أبداً.
المصدر : مدرسة العرفاء, إبراهيم سرور, ج1 ص372, أسوة العرفاء, صادق حسن زادة, ص142 نقلاً عن صفحات من تاريخ الأعلام, ج1 ص331.

وكان القاضي الطباطبائي يدرّس كتاب الفتوحات لابن عربي بحذر شديد فحينما يدخل عليهم أحد غريب يغيّر حديثه إلى حديث آخر!
يقول الشيخ عبّاس القوجاني: كنت أذهب يوميّاً قبل الظهر إلى محضر المرحوم القاضي لساعتين ، وهو الوقت الذي يتشرّف فيه جميع تلامذته والمشغوفون به بالحضور عنده . وكنت في هذه السنوات الأخيرة أقرأ له كتاب « الفتوحات » فكان يستمع لي، فإذا ورد علينا شخص غريب فقد كنتُ أقطع قراءتي فيتكلّم المرحوم القاضي عن مواضيع أُخرى المصدر : الروح المجرد , الطهراني, ص342.

وقد طُرد العارف حسن مسقطي من النجف بسبب ترويجه العرفان المزّيف
يقول الطهراني في كتابه الروح المجرد : أنّ المرحوم السيّد حسن الإصفهاني المَسقطي وكان من أعاظم تلامذة المرحوم القاضي وله علاقات ممتدّة وحسنة جدّاً مع السيّد الحدّاد .... وكان السيّد هاشم يذكر السيّد حسن المسقطي ّ كثيراً في كلامه ويقول : كان له حماسٌ شديد وتوحيدٌ رفيع ، وكان أُستاذاً في البحث وتدريس الحكمة.... وكان يجلس في الصحن المطهّر لأمير المؤمنين عليه السلام فيدرّس الطلاّب درس الحكمة والعرفان ، وكان يثير الحماس والهيجان بحيث كان يبعث في طلاّبه روح التوحيد والخلوص والطهارة بدروسه المتينة المحكمة ، ويسوقهم إلي الإعراض عن الدنيا والاتّجاه صوب العقبي وعالم التوحيد الحقّ. ولقد نقل أتباع المرحوم آية الله السيّد أبي الحسن الإصفهاني ّ قدّس سرّه له : بأنّ السيّد حسن لو استمرّ في دروسه لقلب الحوزة العلميّة إلي حوزة توحيديّة ، ولأوصل جميع الطلاّب إلي عالم الربوبيّة الحقّ وإلى حقيقة عبوديّتهم, لذا فقد مُنِع تدريس علم الحكمة الإلهيّة والعرفان في النجف ؛ كما أُمِر السيّد حسن بالذهاب إلى « مسقط » للتبليغ وترويج الدين . ولم يكن للسيّد حسن أدني رغبة في الخروج من النجف الاشرف....)
المصدر : الروح المجرد, الطهراني, ص112- 113.

أقول : لقد كان حسن مسقطي هذا حلاجيَّ العقيدة ، بل كان يصرّح بعقيدته علانية! ولذلك طرد من النجف الأشرف !
يقول حسن مسقطي: في وحدة الذات (الإلهية) ووحدة الوجود تبدأ نزهة الجذبة الرحمانية: "سبحاني ! ما أعظم شأني !" كما يقول البسطامي. وتبدأ الجذبة منزهةً عن شرك الحس ، فكلـُّهُ لسانٌ ربانيٌّ مُحدَّث ، وكله عينٌ بصيرة ، وكله سمعٌ كليميٌّ يسمع به في وجوده نداءَ الحق: "أنا الحق ! أنا الحق !" كما يقول الحلاج!!
المصدر: قدوة العارفين سيرة العارف حسن المسقطي, تقي الموسوي, ص191.

فالرجل حلاجيُّ العقيدة ، وكان يصرّح بعقيدته في العلن ، وهذا ما جعل السيد أبو الحسن الأصفهاني يتخذ إجراءَ إبعاده عن النجف الأشرف إلى مسقط ، ولكن العرفاء حرّفوا القضية وجعلوا ذلك الطريد رسولاً إلى مسقط للتبليغ!!
مع أن النص الذي ذكروه يفضحهم حيث أنّ إبعاده عن النجف الأشرف متلازم مع منعه من تدريس العرفان! وإذا كانت عقيدته مرفوضة عند السيد أبو الحسن الأصفاني في النجف فكيف يرسله لتبلغيها في مكان آخر؟!
فتلاحظ أخي القارئ العزيز موقف علمائنا الأبرار الرافض لهذا العرفان المزيّف الشيطاني ومحاربتهم له !
وهذا من الأسباب الرئيسية التي منعت العرفاء من الجهر بعقيدتهم الحلاجية أو تدريسها في تلك الفترة!
وقد حصّنت هذا المواقف المشرّفة من قِبَل فقهائنا الأبرار الطلاب من الانجرار إلى هذا المسلك الشيطاني!
ولكن للأسف الشديد تغيّر كل شيء بعد الثورة الايرانية فأصبح الخميني يدرّس العرفان في العلن وتُسجّل محاضراته وتبث أشعاره العرفانية الحلاجية في الإذاعة الرسمية!!
فكل أجواء الخوف والوجل تلاشت بعد الثورة وأصبح الفقهاء هم الذين يضطرون للتقية من العرفاء!! وغدا تدريس العرفان المزيّف الباطل ليس مقصوراً على الحوزات العلمية في إيران بل حتى جامعاتها!!
المصدر : انظر مقدمة كتاب محيي الدين ابن عربي الشخصية البارزة في العرفان الإسلامي, الدكتور محسن جهانكيري أستاذ الفلسفة في جامعة طهران.

هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين..
طالب علم