السبت، 10 فبراير 2024

ما هو سبب هجرة المطهّري إلى طهران؟

 

ما هو سبب هجرة المطهّري إلى طهران؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين، إلى قيام يوم الدين.

ذكرت المصادر التاريخية وكتب السيرة أن مُرتضى مُطهري هاجر إلى طهران في سنة 1373هـ ق، الموافق لسنة 1953م ولكنها اختلفت حول السبب الحقيقي وراء هذه الهجرة وتعددت الأقوال في هذا الخصوص!

في هذا المقال سنذكر هذه الأقوال ونعرضها على ميزان النقد العلمي حتى ننتهي إلى القول المنصور الموافق للواقع:

 

الرواية الأولى:

 جاء في كتاب "مرتضى مطهري" لخنجر حميّة ما نصه: (يروي علي دوّاني أنه بعد فشل حركة الإمام الخميني ضدَّ الشاه، ووقوع مجزرة الفيضية، تعرض طلاب الإمام وأنصاره من رجال الدين إلى العزل وقُوطعوا، وكان من جملة هؤلاء مُطَهّري الذين أفسدت حاشية البروجردي الود بينهما، وبالرغم من محاولة منتظري حل هذه المشكلة، وحمله رسالة من مطهري إلى أستاذه البروجردي يشرح له فيها موقفه، إلا أنّ الأخير رفض تسلمها فقرر مُطَهّري الرحيل إلى طهران). (مرتضى مطهري، خنجرحميّة، هامش رقم 1 ص91).

وفي الهامش المرقّم برقم "2" قال الكاتب: (ويذكر ذلك مطهري عن حديثه عن محنته في قم بعد مشاركته في مكتب إسلام ومحاضراته في دار التبليغ وهو يشبّه محنته بمحنة السيد القمي الذي انتفض عنه المقدسون ورجال الحوزة بالرغم من كونه آية الله فنفاه النظام إلى ناحية من نواحي طهران). انتهى النقل.

 

أقول: إن ما ذكره "علي دوّاني" وجعله سببًا لهجرة المطهري إلى طهران لا ينسجم مع الحقائق التاريخية، حيث أنه جعل سبب الهجرة ما حدث بعد حركة الخميني ضدَّ الشاه، ووقوع مجزرة الفيضية، وهذه الحادثة وقعت سنة 1963م بينما كانت هجرة المطهري 1953م، أي قبل عشر سنوات من وقوع الحادثة!

وقد توفى السيد البروجردي قدس سره في سنة 1961م، أي قبل وقوع الحادثة بسنتين! فلا يمكن بأي حال قبول ما ذكره "علي دوّاني" بخصوص سبب هجرة المطهري!

ثم أن تصريح مطهري-في النص الثاني- وتشبيه محنته بمحنة السيد القمي يكشف حقيقة أنه لم يهاجر إلى طهران برغبته ولكنه نُفِيَ!

ولنا هنا أن نتساءل: ما هو السبب الحقيقي لهجرة المطهري إلى طهران؟

ولماذا ترك عش آل محمد عليهم السلام وذهب إلى العاصمة؟

 

الرواية الثانية:

نعرض لكم رواية أخرى وعذرًا آخر جعلوه سبباً لهجرة المطهري إلى طهران.

قال أحمد العاملي "صاحب كتاب محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة": (وعام 1949م وقعت في المدرسة الفيضيّة في قم خلافات بين الطلّاب الرشتيين وبين الطلّاب الأتراك، هجموا خلالها على بعضهم البعض، وقد نشرت ذلك صحيفة (استوار) القمية، ودخل رجال الأمن على أثرها المدرسة الفيضية، وقد دفعت هذه الحادثة بالإمام الخميني رحمه الله إلى الاجتماع بالسيّد البروجردي رحمه الله والحديث معه حول ضرورة إصلاح الحوزة وتنظيم أمورها...الخ).

ثم قال في النقطة التي تليها: (أن الشيخ مرتضى المطهري رحمه الله كان أحد الكوادر العاملة إلى جانب الإمام الخميني رحمه الله في سبيل إصلاح الحوزة ضمن ما عرضناه في النقطة السابقة، وبعد فشل المشروع، اتخذ المقرّبون من السيد البروجردي رحمه الله موقفاً سلبياً منه، وكلّما أراد توضيح موقفه كان يقابل برفض الاستماع إلى شهادته، فلجأ إلى كتابة رسالة إلى السيد البروجردي رحمه الله يوضح فيها الموقف ويعترض بأنه في أيّ نظام تتم فيه محاكمة المتهم غيابياً دون سماع شهادته؟! وطلب من الشيخ حسين المنتظري تسليمه إيّاها شخصياً، ولما التقى به، رفض السيد البروجردي رحمه الله استلامها، فكان من الشيخ المطهري رحمه الله أن انتقل إلى طهران، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته في الجامعة). (محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة، أحمد العاملي، ج1ص67-68).

 

أقول: تلاحظ أخي القارئ أن هذه الحكاية هي ذاتها التي ذكرها "علي دوّاني" في الرواية الأولى ولكن السبب مختلف حيث قال هنا: "أن الخميني يريد إصلاح الحوزة" بينما قال هناك: "تحرك الخميني ضدَّ الشاه"! وهذا يكشف عن تخبطهم في سبيل تحريف الحقائق!

ثم إن هذه الحكاية لا تتوافق مع الحقائق التاريخية أيضًا، حيث ذكر الكاتب أن هذه الواقعة حدثت سنة 1949م بينما هاجر مُرتضى مُطَهّري إلى طهران سنة 1953م، أي بعد أربع سنوات من هذه الواقعة! ولهذا لا يعقل أن يكون هذا هو سبب هجرة المطهري!

فما هو السبب الحقيقي إذًا؟

 

الرواية الثالثة:

نعرض لكم خبرًا ثالثًا جعلوه سببًا في هجرة المطهّري إلى طهران.

جاء في كتاب "الإمام الخامنئي السيرة والمسيرة" حكاية على لسان الخميني وهو يقول: (لابد أن يكون هناك خطيب في الجامعات، واقترح أن يكون السيد علي الخامنئي [حيث كانت هذه المهمة موكلة للشيخ مرتضى المطهري طيلة حياته الجهادية قبل الثورة] فأبلغوه عني بأن يتجه بدلاً من الشهيد المطهري ليلقي خطاباته في الجامعات، فهو، فهيم، عليم، متحدث ومن أصحاب البيان). (الإمام الخامنئي السيرة والمسيرة، ص194-195).

 

أقول: يُفهَمْ من هذا النص وما أضيف عليه أنّ مرتضى مطهري كان في مهمة موكلة إليه من قبل الخميني فهجرته إلى طهران كانت لأداء هذه المهمة وبعد وفاته اقترح الخميني أن يقوم خامنئي بهذه المهمة!

والجواب على ذلك من وجوه:

أولًا: هذا التصريح لم يرد ضمن خطابات وكلمات الخميني في صحيفته المشهورة، فلا اعتماد على هذه المنقولات المجهولة.

ثانياً: كان الخميني-في زمن سلطته- يعيّن الخطباء وأئمة المساجد وغيرهم ببيانات رسمية ويخبرهم بنفسه وليس كما جاء في هذا المنقول حيث جاء التصريح بصيغة المخاطبة للغائب: (فأبلغوه عني)! ومثل هذه اللغة لا تصدر عن الخميني أبداً بل هي من عمل القصاصين! نعم، قد أصدر الخميني بياناً بتعين خامنئي إمامًا لجمعة طهران وليس خطيباً في الجامعة!

ثالثًا: تذكر المصادر أن مرتضى المطهري أُحيل على التقاعد المبكر سنة (1976م) فترك الجامعة من ذلك الوقت، فلماذا لم يشعر الخميني بالمسؤولية ويرسل من يحل محله إلا بعد مقتله؟

رابعًا: لم يكن عند الخميني أي سلطة في ذلك الوقت، أي في وقت هجرة المطهري إلى طهران سنة 1953م لكي يكلّفه بهذه المهمة، ففي قم المقدسة كانت السلطة الدينية بيد السيد البروجردي ولم يكن الخميني يستطيع فعل شيء في زمانه حيث قال صاحب كتاب "قبسات من سيرة الإمام الخميني" : (لقد شاهدنا من الإمام-أي الخميني- التزامًا بصمت عظيم في عهد زعامة آية الله البروجردي استمر من يوم وصوله إلى قم-أي سنة 1946م- إلى يوم وفاته في شهر شوال سنة 1380هـ.ق، (1961م) فلم يتدخل الإمام مباشرة طوال هذه المدة في الشؤون السياسية وانصب على التدريس والتأليف والاجتهاد في تهذيب النفوس والنصيحة للمراجع وبالخصوص المرجع الأكبر المرحوم السيد البروجردي). 

وقال أيضاً: (لم يكن الإمام- أي الخميني- يتدخل أبدًا في شؤون الحوزة في عهد مرجعية السيد البروجردي، وكان يقول: "للحوزة رئيس يجب الرجوع إليه"). (قبسات من سيرة الإمام الخميني، ص37-43).

خامساً: من جهة أخرى ليس للخميني -في ذلك الوقت- سلطة على الجامعة لكي يوظّف رجل دين حوزوي في جامعة طهران! نعم كانت هذه السلطة في يد الشاه محمد رضا بهلوي وهو -في زمانه- قادر على توظيف مطهري هناك ولو لم يمتلك شهادة أكاديمية!

ولهذه الأسباب وغيرها لا يُعقل أن يكون هذا المنقول هو سبب هجرة مطهري إلى طهران!

فما هو السبب الحقيقي؟ 

 

الرواية الرابعة:

نعرض لكم خبرًا رابعًا جعلوه سببًا في هجرة المطهّري إلى طهران.

جاء في مقدمة كتاب الإسلام وإيران: *(إنه -أي المطهري- من الأفراد البارزين من مجتهدي تلامذة المرحوم آية الله السيد حسين البروجردي "قده" وبعد وفاة استاذه تقبّل التدريس بكلية "الإلهيات =الشريعة" في طهران في الفلسفة الإسلامية وغيرها..) . (الإسلام وإيران،مطهري، ص8)

أقول: تلاحظ أخي القارئ بأن هذا الخبر مخالف لتاريخ هجرة المطهري التي كانت في سنة 1953م بينما كانت وفاة السيد البروجردي أعلى الله مقامه 1961م!

وبغض النظر عن ذلك، يُفهم من قوله: (تقبّل التدريس بكلية الإلهيات في طهران) أنّ الهجرة كانت بطلب من الجامعة وقد استجاب مُطَهّري لهذا الطلب وهاجر!

ونقول في الجواب على ذلك: إنّ المطهري التحق بالجامعة سنة 1957م بينما هاجر إلى طهران سنة 1953م!

جاء في كتاب مُرتضى مُطهّري لخنجر حميّة: (حلَّ مُطَهّري في طهران سنة 1373هـ ق (1953م)... وفي سنة 1376هـ ق (1957م) نشر الجزء الأول من كتاب أصول الفلسفة والمذهب الواقعي. في السنة نفسها أرسلت إليه جامعة طهران دعوة للتدريس في كلية الإلهيات فلبّاها). (مُرتضى مُطهّري، خنجر حميّة، ص91).

فالفرق بين هجرة المطهري إلى طهران والتحاقه بالجامعة أربع سنوات تقريباً، ولهذا لا يُعقل أن يكون هذا هو سبب الهجرة!

فما هو السبب الحقيقي؟

 

الرواية الخامسة:

نعرض لكم خبرًا خامسًا جعلوه سببًا في هجرة المطهّري إلى طهران.

جاء في كتاب "المطهري العبقري الرسالي" ما نصه: (كان الأستاذ المطهري في الحوزة العلمية بقم مدرساً، فوجد أن أغلبية الرعية، هم الشبان، لا راعي لهم، ولا قائد يقودهم، والعالم يسير نحو اللامبالاة، ولصوص الأخلاق والأعراض يخططون ويبرمجون، فلا بد ممن يهديهم ويسيّرهم ويقودهم إلى سبيل الحق، وإلى صراط مستقيم، فشمّر عن ساعديه، وتوجّه نحو العاصمة طهران، الغاصة بالسكان الذين يتزايد عددهم يوماً بعد يوم، ولحظة بعد لحظة، وكلما نصحه الناصحون، وألحَّ عليه الملحون بالعودة إلى قم، والرجوع إلى الحوزة، اشتد عزمه على البقاء في جوار الجيل الفتي، لأنه أدرك الموقف، وميّز الضروري، وعلم أن الجيل ينزلق إذا تأخر، وينحرف، ويتقهقر ويكون مصيرة الهلاك والبوار). (المطهري العبقري الرسالي، ص197).

 

 أقول: في هذه الرواية يريد الراوي أن يقول بأن سبب هجرة المطهري إلى طهران هو رغبته في البقاء بجوار الشباب الطهراني وقيادتهم وتوجيههم ورعايتهم لكي يحفظهم عن الانزلاق والانحراف!

والجواب على ذلك:

أولًا: لماذا حرص مطهري على الشباب الطهراني ولم يحرص على الشباب في باقي المناطق؟ كالشباب القمي أو المشهدي.. مثلاً ؟ّ!

ثانيًا: لماذا لم يقم برعايتهم من مدينة قم المقدسة مثلاً أو يذهب إليهم في طهران مرة أو مرتين في الأسبوع؟!

ثالثًا: إذا كان الهدف الأساسي من هجرته إلى طهران هو الحرص على الشباب الطهراني عن الانزلاق والانحراف فلماذا تركهم وذهب يشتغل طوال وقته بتدريس الفلسفة في مدرسة مروى ثم في الجامعة إلى جانب الانشغال بشرح وتأليف الكتب الفلسفية؟!

رابعًا: حينما نراجع الأعمال التي ركز عليها المطهري منذ وصوله إلى طهران لا نجد فيها رعاية الشباب كهدف رئيسي من هجرته ولا حتى كهدف هامشي فقد جاء في كتاب حكايات وعبر من حياة مرتضى مطهري: (توجه – أي المطهري- إلى طهران في العام 1331هـ ش (1953م)، بعد 15 سنة قضاها الشهيد مطهري في قم، ومع دخوله طهران التي استقر فيها تبدأ مرحلة جديدة في حياته عنوانها "العلم والعمل". تزوّج في العام (1953م) من كريمة أحد مشاهير علماء خراسان! في العام (1953م) بدأ التدريس في مدرسة مروى، واشتغل بتدريس الكتب الفلسفية المختلفة! في العام 1374هـ ق (1955م)، نشر أوّل مقالة له في مجلة حكمت التي تصدر في قم! في العام 1376هـ ق (1957م) أصدر أول جزء من كتاب أصول الفلسفة والمذهب الواقعي! في العام (1957م) وجهت له جامعة طهران دعوة للقيام بالتدريس بكلية الإلهيات، والمعارف الإسلامية، فقبل الدعوة، واستمرّ مدرسا فيها إلى العام 1398هـ ق. (1978م)، فبقي مدة 22 عام يعمل بالتدريس في الجامعة). (حكايات وعبر من حياة مرتضى مطهري، حيدر البرهاني، ص25-26).

فكما تلاحظ أخي القارئ لم يكن للمطهري أي اهتمام فعلي برعاية الشباب في طهران منذ هجرته إليها لهذا يستبعد أن يكون هذا هو سبب هجرته!

فما هو السبب الحقيقي؟

 

الرواية السادسة:

نعرض لكم خبرًا سادسًا حول سبب هجرة المطهّري إلى طهران.

جاء في موقع موسوعة عريق عند ترجمة مرتضى مطهري ما نصه: (تلقى مرتضي المطهري تعليمه الأولي في فرامين ثم حضر الحوزة العلمية في قم 1944-1952م، فحضر دروس السيد الخميني والسيد البروجردي...عاد إلى قم والتحق بدرس العلامة الطباطبائي، وثم غادر طهران سنة 1953م) وقال عند ذكر دراسته: (وبسبب بعض المشكلات المعاشية التي واجهها الشيخ المطهَّري في مدينة قم اضطرَّ إلى السفر إلى طهران، واتَّجه هناك نحو التأليف والتدريس في الجامعة). (موقع موسوعة عريق، ترجمة مرتضى مطهري)

تلاحظ أخي القارئ أنّ هذه الرواية توافق تاريخ هجرة المطهري إلى طهران، أي في سنة 1953م، وبهذا يكون قد تحقق جانب من التطابق في هذه الرواية.

وأما سبب الهجرة -كما جاء في هذه الرواية- هو (بعض المشكلات المعاشية التي واجهها الشيخ المطهَّري في مدينة قم) والظاهر أن هذه العبارة مقتبسة من خطاب خامنئي حيث قال في ذكرى وفاة مرتضى المطهري: (بسبب بعض المشكلات المعاشية التي واجهها آية الله الشيخ المطهري في قم المقدسة، اضطر إلى السفر إلى طهران، واتجه هناك نحو التأليف والتدريس في الجامعة).

وجاء هذا النص أيضاً كتاب: "110 أسئلة من آثارالشهيد مطهري" الصفحة السادسة حيث قال المقدّمة: (في عام 1946م، عاد -أي المطهري- إلى مدينة قم مع أُستاذه السيّد البروجردي بدعوة من أساتذتها، لكن بسبب بعض المشكلات المعيشية التي واجهها الشيخ المطهَّري في مدينة قم، اضطرَّ إلى السفر إلى طهران، واتَّجه هناك نحو التأليف والتدريس في الجامعة).

وقد يشتبه القارئ للنص الأخير فيتصوّر أن المطهري هاجر في نفس السنة التي قدم فيها قم المقدسة سنة (1946م) ولكن مع رجوعه للنص الأول يرتفع هذا الإشكال حيث جاء: (عاد -أي المطهري- إلى قم والتحق بدرس العلامة الطباطبائي، وثم غادر طهران سنة 1953م).

فهناك مدة زمنية مكث فيها المطهري في قم المقدسة يتلقى دروس الفلسفة والعرفان على يد الطباطبائي والخميني والتي استمرت إلى سنة (1953م) ثم هاجر إلى طهران.

ولكن لنا أن نتسائل: ما سبب هذه المشكلات المعيشية؟

يقول هاشمي رافسنجاني: (كَمْ هي مُرّة تلك الأيام التي مرّت علينا بعد سماعنا أنّ أستاذ الفلسفة والفقه والأخلاق قد رحل عن قم وحوزتها، هذه المرارة تضاعفت عندما سمعنا أن الفقر والاحتياج المادي هما سبب رحيله عن هذه الحوزة التي عشقها وظل يعيش آمال العودة إليها حتى أيامه الأخيرة. كان الأستاذ قد قرر الزواج، الأمر الذي يستلزم تهيئة منزلٍ للسكنى خارج المدرسة الفيضية وبالطبع يحتاج الأمر إلى ميزانية أكبر، ولا أخفي عليكم أني قد دخل قلبي عندها وللمرة الأولى الأذى من آية الله البروجردي وكان حينها المرجع المسؤول، كنت أتسائل: لماذا سمح بأن تفقد حوزة قم مثل هذا الأستاذ على الرغم من كل الإمكانات التي كانت تحت اختياره). (حكايات وعبر من حياة مطهري،حيدر البرهاني،ص265)

 

أقول: حاول رفسنجاني -بعد أن أبدى لوعته وأسفه لفراق مطهري- بأن يعلّل سبب المشكلات المعيشية التي تعرّض لها مطهري قائلا أنّ الأخير كان قد قرّر الزواج وهذا الأمر يستلزم الخروج من المدرسة الفيضية إلى سكن مستقل وهذا يحتاج إلى ميزانية أكبر! ولكن المطهّري لم يخرج خارج المدرسة الفيضية فحسب بل خارج قم بأكملها واتجه إلى طهران التي هي بلا شك أكثر كلفة مادية من المعيشة في قم المقدسة!

ولكن الشيء اللافت للنظر في تصريح رفسنجاني والذي أحسبه فلتة من فلتات لسانه هو حينما أظهر الغل الذي في قلبه اتجاه السيد البروجردي عندما قال: (ولا أخفي عليكم أني قد دخل قلبي عندها وللمرة الأولى الأذى من آية الله البروجردي وكان حينها المرجع المسؤول)!

فإنه في هذا التصريح يكشف أنّ الموضوع مرتبط بالسيد البروجردي وأنه هو سبب المشكلة التي أدت إلى هجرة المطهري إلى طهران!

فماذا فعل السيد البروجردي؟

وما سبب هذه الظروف المعيشية التي تعرض لها مطهري؟

الجواب:

روى الشيخ علي الملكي الميانجي عن آية الله الشيخ لطف الله الصافي -الذي كان من تلامذة السيد البروجردي وبطانته- أنه قال: (واجه السيّد – أي البروجردي- ظاهرة ترويج الفلسفة في حوزة قم المقدّسة وتدريسها- التي بدأت من العلامة الطباطبائي وبعض آخر- فأراد أن يصدر فتوى بتحريم تدريس الفلسفة، فتوسط في ذلك بعض تلامذة السيّد الزعيم وأقرباءه وحذروه من ذلك، خوفاً من أن تتهم الحوزة الشيعية بعدم الحيادية في مقابل الآراء المخالفة).

وروى أيضاً عن الشيخ محمد تقي الصديقين الأصفهاني -وهو من أعاظم تلامذة السيد البروجردي- عن الشيخ محمد المقدّس -الذي كان من المعروفين ومن أهل الوثوق وكان على ارتباط دائم مع السيد البروجردي- أنه قال: (أنّ السيد الزعيم البروجردي قدس سره قال: "إن السيّد أبو الحسن الأصفهاني قد حرّم الإشتغال بالفلسفة وأنا أريد أن أفعل مثل ذلك" فقيل له: إنّ بعض الأذربايجانيين يدرّس الفلسفة في قم فيخاف أن يثار شجار وفتنة بين الطلاب. فقال السيّد حفاظاً على الحوزة من التشاجر والإختلاف: "فأنا لا أفتي بتحريم الفلسفة رسميّاً ولكن لا أسوغ الاستفادة من الراتب الشهري الحوزوي لمن يشتغل بالفلسفة تدريساً أو تدرساً"). (جدلية الدين والفلسفة، حسن الكاشاني،ج2ص515-516)

وجاء في كتاب "السيد محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة": *(بعد عودة الأخير-أي الطباطبائي- من تبريز إلى قم وشروعه بتدريس الأسفار واجتماع أكثر من مئة طالب في درسه، فقد أمر السيد البروجردي بقطع رواتب من يحضر هذا الدرس... وكان الشيخ حسين المنتظري يدرّس المنظومة فتعطّل درسه). (السيد محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة،ج1ص65)

وجاء أيضاً في كتاب الشمس الساطعة على لسان الطباطبائي قوله: (عندما جئت من تبريز إلى قم، وبدأت بتدريس الأسفار وتحلّق الطلاب حولي حتى وصل عددهم إلى أكثر من مائه شخص؛ أمر آية الله البروجردي رحمة الله عليه أولاً: بقطع راتب كل طالب يحضر هذا الدرس). (الشمس الساطعة، الطهراني، ص101)

وبما أنّ مطهّري من تلامذة الطباطبائي -صاحب الميزان- ومن أساتذة الفلسفة والعرفان لذلك قطع السيد البروجردي راتبه ولم يسمح له بالدخول عليه ورفض شفاعة المنتظري له، وهذا هو سبب تدهور الحالة المعيشية له والتي أدت في نهاية المطاف إلى هجرته إلى طهران!

فالرواية السادسة هي أقرب الروايات للحقيقة كما أنها أكثر موافقة للتاريخ وسببها منطبق مع منع السيد البروجردي الراتب الحوزوي على المشتغلين بالفلسفة والعرفان.

فقد أراد السيد البروجردي من منعه دروس الفلسفة والعرفان أنّ يحمي طلاب الحوزة العلمية من خطر الانحراف الذي اعترف به حتى الفلاسفة كالخميني حين قال: (إنّ الذين يمتلكون الاستعداد لدراسة الفلسفة دون أن ينحرفوا قليلون)! (قبسات من سيرة الإمام الخميني، التعليم الحوزوي والمرجعية،ص52).

كما أن السيد البروجردي قطع راتب المطهّري وغيره لكي يتركوا ترويج هذا الضلال، فليس بينه وبينهم عداوة شخصية فهو لم يقطع راتب الخميني مثلًا لأن هذا الأخير قد عطّل درسه في الفلسفة والعرفان طيلة حياة السيد البروجردي فقد جاء في كتاب حديث الانطلاق: (وللأسف فإن المؤسسة العلمائية الايرانية كانت تعيش آنذاك حالة الانزواء...الأمر الذي أدّى إلى معارضة البعض من المنحرفين فكرياً وطلاب الراحة القشريين تدريس ودراسة بعض المواد الدراسية الحوزوية كالعرفان والفلسفة ...وقد بلغ الضغط بهذا الاتجاه حدًّت عرّض الإمام الخميني إلى تحمّل ما لا يطاق من أجل تعطيل درسه في الفلسفة والعرفان والأخلاق، الأمر الذي اضطره إلى اعطاء دروسه في الخفاء فكان حصيلة تلك المساعي تربية شخصيات من أمثال العلامة الشهيد المطهري). (حديث الانطلاق، حميد أنصاري، ص24-25).

ولكن عُطِّل هذا الدرس الخاص أيضاً بعد قطع راتب من يدرس أو يدرّس الفلسفة والعرفان وقد ذكر الخامنئي في بداية دراسته الحوزوية بقم المقدسة نهاية سنة (1958م) حيث كشف عن تعطيل درس الفلسفة للخميني فقال: (أبدأ بحديثي منذ عام 1337هـ ش "1958م"، وهي السنة التي ذهبت فيها إلى قم ورأيت الإمام الخميني هناك عن قرب للمرة الأولى...وأخذنا نسمع تدريجاً من الطلبة الأقدم منّا بأنّ هذا الرجل فيلسوف كبير أيضاً، وكانت دروسه الفلسفية أوّل دروس فلسفية في قم، غير أنه يرجح في الوقت الحاضر تدريس الفقه)! (تاريخ الإمام الخميني، الخامنئي،ج1 ص65-66)

 

أقول: ليس لأنه يُرجِّح تدريس الفقه في ذلك الزمن ولكنه مُنِع من تدريس الفلسفة فاضطر إلى تدريس الفقه لكي لا يُقطع راتبه كما حدث لمطهري!

جاء في كتاب "قبسات من سيرة الإمام الخميني" ما نصه: (كان السيد البروجردي يقدّم مساعدات لأساتذة الحوزة، وكان الإمام -أي الخميني- أيضاً يستلم منها شيئاً وقد قال لي بصراحة عنها مجيباً على سؤالي بشأنها: "إن طريقة استلامي هذه الأموال منه كانت على هذه النحو: كان السيد الحاج محمد حسين المدير الأول في بيت السيد البروجردي، يأتي إلى بيتنا مرتين في العام ويقدّم لي ظرفًا فيه مال من طرف السيد"). (قبسات من سيرة الإمام الخميني، التعليم الحوزوي والمرجعية،ص 34)

واستلام الخميني للراتب الحوزوي يعني أنه عطّل درسه كما تقدم!

والخلاصة هي أن هذه الرواية تعتبر الأقرب للواقع والتاريخ من الروايات السابقة في تعليل هجرة المطهري إلى طهران. 

 

الرواية السابعة:

نعرض لكم خبرًا سابعًا حول دواعي هجرة المطهّري إلى طهران.

يقول كمال الحيدري وهو يوجه خطابه للفقهاء والمؤسسة الدينية باللهجة الدارجة: (كل فنّك وقدرتك العلميّة حرام حرام ضلال ضلال، وش سويت؟ كلشي ما سويت بعد! ومن استطاع أن يقدم شيئاً، افترِض مثل الطباطبائي الذي درس الفكر الماركسي وأراد أن ينقضه، مثل مطهري، مثل محمد باقر الصدر، مثل محمد حسين كاشف الغطاء، أول من حاربهم من؟ نفسها الحوزة العلمية.. مُطَّهري طُرِد من حوزة قم، طُرِد طُرِد، أنتم تتصورون راح إلى طهران وإلى إرشاد -اللي طالعين مولانا- أنتم تتصورون جزافاً راح إلى طهران؟ طردوه من هنا –أي من قم- ما قدر يدرّس في قم، ولو ترجع للتاريخ الملا صدرا طردوه من أصفهان راح وين مولانا؟...كهك –أي قرية كهك على أطراف قم المقدسة-...). (https://www.youtube.com/watch?v=bhOntcwmTeA)

 

أقول: في هذه الرواية يقول كمال الحيدري أنّ المطهري طُرد طردًا من قم المقدسة ولم يهاجر برغبته، وقد ذكرنا في القسم الثاني من الرواية الأولى تعليقًا للكاتب خنجر حميّة جاء فيه: (ويذكر ذلك مطهري عن حديثه عن محنته في قم بعد مشاركته في مكتب إسلام ومحاضراته في دار التبليغ وهو يشبّه محنته بمحنة السيد القمي الذي انتفض عنه المقدسون ورجال الحوزة بالرغم من كونه آية الله فنفاه النظام إلى ناحية من نواحي طهران) ثم علّقنا وقلنا: أنّ تصريح مطهري وتشبيه محنته بمحنة السيد القمي يكشف حقيقة أنه لم يهاجر إلى طهران برغبته ولكنه نُفِيَ!

وهذا التصريح يُعضِّد ما ذكره الحيدري من أنّ المطهري طُرِد من قم المقدسة خصوصًا أنّ الأخير لم يمتنع عن دراسة وتدريس الفلسفة وترويجها لذلك طُرد من الحوزة!

ولا أجد تنافرًا أو تناقضًا بين هذه الرواية والرواية التي سبقتها ويمكن الجمع بينهما بقولِ أنّ السيد البروجردي في بادئ الأمر قطع راتبه وحينما لم يمتنع عن تدريس الفلسفة طرده من قم المقدسة كما طرد السيد أبو الحسن الاصفهاني حسن مسقطي من النجف الأشرف إلى مسقط.

 

الخلاصة:

لاحظنا فيما تقدّم تضارب الروايات في خبر هجرة المطهري إلى طهران، فقد جاء في الخبر الأول أنّ سبب الهجرة هو ما حدث بعد خروج الخميني في مواجهة الشاه ووقوع المجزرة الفيضية وهذا ما أدى إلى غضب السيد البروجردي على الخميني وأتباعه ومن بينهم مطهري فلم يتحمّل المطهّري الوضع في قم المقدسة -بعد جفاء السيد البروجردي له- فهاجر إلى طهران!

وجاء في الرواية الثانية أنّ سبب الهجرة هو ما حدث في المدرسة الفيضية من عراك بين الطلاب الرشتيين والأتراك وتدخُّل الخميني لإصلاح الحوزة ولكنه فشل في هذا الإصلاح وأدى ذلك إلى توتر العلاقة بين الخميني والسيد البروجردي وبما أن مرتضى المطهّري محسوب على الخميني لذلك شمله الجفاء من قبل السيد البروجردي ولذلك رفض شفاعة المنتظري له ولم يقبل بوساطته ولذلك هاجر المطهري!

وقال راوٍ ثالث أنّ سبب الهجرة هو أنّ المطهري كان في مهمة موكلة إليه من قبل الخميني ولذلك هاجر إلى طهران والتحق بالجامعة!

وقال راوٍ رابع أنّ سبب الهجرة هو أنّ جامعة طهران أرسلت في طلب مرتضى المطهري تعرض عليه التدريس في كلية الإلهيات، فلبّى المطهري طلبها وهاجر إلى طهران!

وفي رواية خامسة ذكر الراوي أنّ سبب هجرة المطهري إلى طهران هو رغبته في البقاء بجوار الشباب الطهراني وقيادتهم وتوجيههم ورعايتهم لكي يحفظهم عن الانزلاق والانحراف!

وقد ناقشنا كل هذه الأسباب وبيّنا عدم توافقها مع التاريخ والأوضاع في ذلك الوقت بينما وجدنا الرواية السادسة والتي تنص على المشكلة المعاشية هي أقرب الروايات للحقيقة وأكثرها موافقة للتاريخ، وسببها منطبق مع منع السيد البروجردي الراتب الحوزوي على المشتغلين بالفلسفة والعرفان.

وكذلك لا نجد تنافرًا أو تناقضًا بين هذه الرواية والرواية السابعة التي تنص على طرد المطهري من قم المقدسة ويمكن الجمع بينهما كما تقدّم.

ما أريد أن ألفت أنظار الباحثين والمثقفين إليه هو أن تعدد وتضارب الروايات الصادرة من الجهات المدافعة عن الفلسفة والعرفان وتخبُّطها في هذه القضية يكشف عن تعمدهم الكذب والتدليس وتحريف الحقائق التاريخية في سبيل خدمة باطلهم!

فيجب علينا أن ندقق كثيراً في التاريخ والتراث العلمائي الوارد من مؤسسات حكومة إيران في عصرنا، وأن نُمحِّص الروايات والأخبار الصادرة عنهم، وما ذكرناه في هذا المقال ليس إلا نموذجًا من عشرات بل مئات النماذج من الحقائق التي سعوا بكل طاقاتهم لتحريفها وطمسِ معالمها!

هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

07/ذو الحجة/1443هـ

ذكرى استشهاد الإمام الباقر عليه السلام

طالب علم