الأربعاء، 17 يونيو 2015

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير "الحلقة التاسعة "

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن أعداءهم
ذكر السيد منير الخبّاز في تسجيل مرئي أن أقسام العرفان أربعة وهي: العرفان النظري والعرفان العملي والعرفان الخُلُقي والعرفان العبادي, ثم ذكر لكل نوع منها نماذج تجسدها وتمثلها من العلماء, وما يهمنا في هذه الحلقة هو النوع العبادي الذي أدخلوه هو والقسم الخُلُقي ضمن أقسام العرفان الباطل الرائج بين الناس في هذا العصر .
وقد أقحموا هذين القسمين في العرفان المزّيف لكي يتأتى لهم بعد ذلك إدخال بعض العلماء الأبرار في جماعة العرفاء المتصوّفة تجنياً وبهتاناً وهم ليسوا من العرفاء المتصوفة ولا المتصوفة منهم!
وكعادتنا في التوثيق نطرح بين أيديكم أولاً مقطع التسجيل المرئي :
يقول السيد منير الخباز : القسم الثالث العرفان العبادي وهو ما يعبرون عنه بانصهار المعلول بعلته الغائية فإنّ الغاية من وجود الإنسان هو العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وليس المراد بالعبادة الطقوس الصلواتية والصوم والحج فقط إنما المقصود بالعبادة أن ينعقد قلبه على الله فلا يرى إلا الله, فالإنسان العارف هو الإنسان الذي تأطّر كيانه كله بالله عز وجل فهو الذي سيطر على نفسه بحيث لا تُفكّر إلا في الله وسيطر على انفعالاته بحيث لا يحب ولا يبغض إلا في الله، وسيطر على دواعيه بحيث لا يتحرّك ولا يبادر إلا في الله. فكل كيانه مُؤطر بإطار التعلّق بالله تبارك وتعالى (يسارعون في الخيرات ويدعوننا رَغَباً ورَهَباً وكانوا لنا خاشعين) هؤلاء الذين يصفهم القرآن الكريم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} ومن أقطاب هذا المجال "العرفان العبادي" كثير من علمائنا منهم المرحوم السيد السبزواري "قدس سره"

أقول : ذكرنا في المقالات السابقة أنّ العرفان بهذا المنهج الاعتقادي والسلوكي الشائع اليوم عند الناس هو منهج باطل وليس من منهج أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم، إذ ليس هو سوى الوجه الآخر للتصوّف، وكلاهما يصبان في خدمة العرفان النظري الفلسفي، ولا أدلّ على أنّ العرفان والتصوّف كلاهما وجهان لعملة واحدة, أنك تجد أهل العرفان يعظّمون رموز التصوّف كالحلاّج وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم، وأنك تجد مشاربهم وأذواقهم متّحدَة وإن أنكر المكابرون منهم ذلك.
وهذا المنهج العرفاني إنما هو منهج شيطاني يوقع صاحبه في الشرك باعتقاده وحدة الوجود والموجود فلا يوجد عارف إلا ويعتقد بهذا الاعتقاد.
وقد حاول المتزلفون للعرفاء إدخال بعض العلماء الربانيين داخل دائرة العرفان الصوفي لكي يضفوا مشروعيةً على ذلك المسلك الشيطاني المنحرف , فاختلقوا أقساما أخرى مستقلة للعرفان ليس لها وجود عند كُبراء ذلك المسلك أنفسهم.
فالعرفان الباطل الرائج اليوم ينقسم إلى قسمين قسم نظري وقسم عملي, فهم في الجانب النظري يطلق عليهم (عرفاء، عرفاء فلاسفة) وفي الجانب العملي هم في الحقيقة (متصوّفة).

يقول المطهري : أهل العرفان إذا ذكروا في معرض المعرفة دعوا بالعرفاء ؛ وإذا ذكروا في معرض أمر اجتماعي دعوا بالمتصوّفة.
المصدر :الكلام والعرفان, المطهري ص65, تعريب علي خازم.
ويقول كمال الحيدري : التصوّف مرحلة من مراحل العرفان فإنه عندما يريد الإشارة إلى العرفان باعتباره رؤية فإنه يطلق عليه اسم (العرفان) وأصحابه هم (العرفاء) وعندما يريد الإشارة إليه باعتباره تجربة عمل فإنه يطلق عليه اسم (التصوّف) وأصحابه هم (المتصوّفة).
المصدر : العرفان الشيعي, كمال الحيدري, ص9.
فكما تلاحظ هما قسمان نظري وعملي, فأضاف المتزلفون للعرفاء قسمين آخرين وهما العرفان الخُلُقي والعرفان العبادي لكي يدخلوا بعض العلماء الأبرار عنوةً ضمن دائرة العرفان الباطل كما فعلوا مع المرجع السيد عبد الأعلى السبزواري  "قدس سره" حيث أدرجوه ضمن قائمة العرفاء وهو مخالف لهم كما سيتبين لنا من خلال السطور القادمة.

أما العرفان الإسلامي الصحيح فهو ذاك الذي عبّر عنه إمامنا الباقر (صلوات الله عليه) ضمن جوابه على أسئلة أبي حمزة الثمالي رضوان الله تعالى عليه. فقد روى العياشي عن أبي حمزة قال: (قال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا حمزة.. إنما يعبد الله من عرف الله، فأما من لا يعرف الله كأنما يعبد غيره هكذا ضالا.
قلت: أصلحك الله وما معرفة الله؟
قال: يصدّق الله ويصدّق محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله في موالاة علي والائتمام به، وبأئمة الهدى من بعده، والبراءة إلى الله من عدوّهم، وكذلك عرفان الله.
قلت: أصلحك الله، أي شيء إذا عملتُه أنا استكملت حقيقة الإيمان؟
قال: توالي أولياء الله وتعادي أعداء الله وتكون مع الصادقين كما أمرك الله.
قلت: ومن أولياء الله ومن أعداء الله؟
فقال: أولياء الله محمد رسول الله وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ثم انتهى الأمر إلينا ثم ابني جعفر - وأومأ إلى جعفر وهو جالس - فمن والى هؤلاء فقد والى الله وكان مع الصادقين كما أمر الله.
قلت: ومن أعداء الله أصلحك الله؟
قال: الأوثان الأربعة.
قلت: من هم؟
قال: أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ومن دان بدينهم، فمن عادى هؤلاء فقد عادى أعداء الله).
المصدر: تفسير العياشي ج2 ص116.
فدقّق أخي القارئ الكريم في قوله عليه السلام: (وكذلك عرفان الله) لتعرف المعنى الحقيقي السليم للعرفان، ولتعرف أيضاً المعنى المحرّف مما هو شائع اليوم عند الناس مع الأسف لما أغواهم به أئمة الضلالة والدعاة إلى النار.

يقول السيد منير الخباز : العرفان العبادي وهو ما يعبّرون عنه بانصهار المعلول بعلته الغائية...

أقول : المقصود من قول السيد منير (انصهار المعلول بعلته الغائية)  هو فناء وانصهار العارف في ذات الله تعالى حتى يصبح شيئاً واحداً متحداً فلا فرق بينهما ولكن يمهد إلى ذلك بعناوين أخرى يسيغها المتلقي كالعبادة!
يقول المعلّق على ديوان الخميني: حين يفنى الصوفي العارف في الله ينتفي التفريق بينهما, يصبح هذا ذاك وذاك هذا, لا يعود ثمة أنا وأنت ما داما واحداً, وليس بينهما سر وعلن ما داما متحدين منصهرين!
المصدر : ديوان الخميني المسمى الفناء في الحب,هامش الترجيعات رقم (16).
وفي هذه الحال لا يرى العارف شيئاً إلا الله!
يقول الحلاّج:
أنا من أهوى و من أهوى أنا*** نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته*** و إذا أبصرته أبصرتنا
أيها السائلُ عن قصتنا*** لو ترانا لم تُفرق بيننا
روحهُ روحي وروحي روحه*** من رأى روحين حلت بدنا؟!
المصدر : ديوان الحلاّج, قافية النون, ص80, طبعة منشورات الجمل.
فتلاحظ قوله بكل صراحة أنه هو الله، والله هو، ولا فرق بينهما! فقول السيد منير (انصهار المعلول بعلته الغائية)  هو فناء العارف في ذات الله تعالى فناءً تاماً ,يصّيرهما شيئاً واحداً, ففي تلك الحال إذا تكلّم العارف ليس هو المتكلّم كما تتوهّم بل هو الله!
يقول حسن المسقطي وهو يبرّر قول الحلاّج (أنا الحق) : ليس هو العارف –الحلاّج- الذي يتكلّم، ولكن الذي ينطق هو الوجود البحت البسيط - الله-. فالعامة –الفقهاء-يظنونها كفراً، والخاصة –العرفاء- يسمونها "شطحات". والعارف صادق حتى في "شطحاته" لأن الله هو الذي يتكلم، وحاشا للعارف أن يتكلّف، فكلامه صدق لأن حالته هي تلك. والذي قال "أنا الحق" ليس هو الحلاج!
المصدر: قدوة العارفين سيرة العارف حسن المسقطي, تقي الموسوي, ص145.
فتلاحظ قوله : (العارف صادق حتى في شطحاته)!! فحينما يقول أنا الحق فهو صادق! وحينما يقول : ليس في جبتي سوى الله فهو صادق! فالذي تكلم ليس الحلاّج بل هو الله!
فيقول الله ليس في جبتي سوى الله!
لا تستغرب أخي الكريم من هذا التصريح, فالعرفان (المزّيف) طور فوق طور العقل فيجب أن تُخضع عقلك لخرافات المتصوّفة! تماماً كما يجب أن تسحق إنسانيتك وتدوس على عقلك وتقبل ثالوث النصارى وتقول راغماً أنّ الثلاثة واحد والواحد ثلاثة ومهما فعلت وقلت وفنّدت فأنت عند أتباع الثالوث لا يمكنك أن تفهم كيف وأنت قاصر! فلا يفهم ذلك إلا العرفاء المتصوّفون!
يقول الطباطبائي (صاحب الميزان) : معرفة ذات الحقّ –الله- في حال الفناء ممكنة للمخلَصين والمقرّبين من عباد الله وهذا لا كلام لنا فيه وهو صحيح تماماً ولكن مهما بحثنا ومن أي طريق دخلنا فإن ضمير زيد لا يمحى ولا يزول.
فمن جهة أن زيداً صار فانياً –في الله-, وصار زيد هو –الله- أي أن هو –الله- صار قائماً مقام زيد, فلا شيء إلا هو –الله- , ولكن إلى أين ذهب زيد؟ فهذا لا نستطيع أن نقوله!
وإذا سألنا زيداً : من أنت؟ فلن يقول : أنا زيد , ولكنه يقول أنا الحق!
المصدر : الشمس الساطعة, الطهراني, ص259.
أقول : إذا رفعنا اسم (زيد) ووضعنا اسم (الحلاّج) فيصبح النص بهذا الشكل :
الحلاّج فني في الله وصار هو الله ! الله صار قائماً مقام الحلاّج.
فحينما قال (أنا الحق) ليس الحلاّج الذي تكلم بل هو الله! لأن الحلاّج من شدة انصهاره في علته الغائية التي عبّر عنها السيد منير بالعبادة فإنه قد انصهر في الذات الإلهية!

يقول السيد منير الخباز : فإنّ الغاية من وجود الإنسان هو العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وليس المراد بالعبادة الطقوس الصلواتية والصوم والحج فقط إنما المقصود بالعبادة أن ينعقد قلبه على الله فلا يرى إلا الله, فالإنسان العارف هو الإنسان الذي تأطر كيانه كله بالله عز وجل فهو الذي سيطر على نفسه بحيث لا تفكر إلا في الله، وسيطر على انفعالاته بحيث لا يحب ولا يبغض إلا في الله ، وسيطر على دواعيه بحيث لا يتحرّك ولا يبادر إلا في الله فكل كيانه مُؤطر بإطار التعلّق بالله تبارك وتعالى.

أقول : هذا المعنى الذي يحاول السيد منير الخبّاز تحميله للآية الكريمة  ليس هو ما ورد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام, فإنّ المعرفة الحقة لله تعالى كما نص عليه أهل البيت عليهم السلام هي معرفة أهل كل زمان إمامهم وهو الذي من خلال تمسكهم به وتعلقهم به يكون ارتباطهم بالله جل وعلا ارتباطاً صحيحاً مرضياً.
إنّ المطلوب من قبل الشارع المقدّس أن يكون كيان العبد مؤطراً بإطار التعلّق بإمامه الذي عينه الله تعالى ونصبه له قائداً، فهذا الارتباط والتعلّق هو الذي يقربه من خالقه ويجعله موضع الرضا والعناية, وهذا الارتباط بالإمام من الواجب أن لا ينقطع أبداً وإلا كان الضياع والبعد عن الجادة والطرد عن موضع القرب والرضا الالهي.
إنّ الصوفي مثلاً يعتمد على شيخ يرشده إلى أن يصل مرحلة بزعمهم يكون قد تكامل فيستغني عن مرشده, وما يتحدث عنه السيد منير شيء أشبه بهذا!
ولكنّ المؤمن الموالي لأهل بيت العصمة عليهم السلام لا ينفك تعلّقه عن أهل البيت عليهم السلام ولكنه تعلقٌ مقرون بتعلّقه بربه, فالقضية عند المؤمن الموالي لأهل بيت العصمة عليهم السلام ليست مجرّد حب قلبي حيث يقول السيد الخباز: (بحيث لا يحب ولا يبغض إلا في الله) بل هي "تعلّق" تام بتلك الذوات المعصومة المقدسة في جميع الشؤون والحاجات الدنيوية والأخروية , لأن المؤمن لا يرى إلا أهل بيت العصمة عليهم السلام  في جميع شؤونه الدنيوية والأخروية, وقلبه قد انعقد عليهم فلا يحب إلا فيهم ولا يبغض إلا فيهم عليهم السلام.
فهُنا قلب المؤمن واقعاً قد تعلّق بالخالق وصفوةٍ من الخلق، وهذا مخالف للمعنى الذي أراد السيد الخباز تسويقه لتزويق وتحريف المعنى الحقيقي لوحدة الوجود عند العرفاء!
وإليك أخي القارئ ما ورد في تفسير أهل البيت عليهم السلام لقوله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}, فقد جاء في علل الشرايع للشيخ الصدوق بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام قال : خرج الحسين بن علي على أصحابه فقال : أيها الناس إنّ الله عز و جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل : يا ابن رسول الله صلى الله عليه و آله بأبي أنت و أمي فما معرفة الله ؟ قال : معرفة أهل كل زمان  إمامهم الذي تجب عليهم طاعته.
المصدر :نور الثقلين:ج٥،ص١٣٣.

يقول السيد منير الخباز : ومن أقطاب هذا المجال العرفان العبادي كثير من علمائنا منهم المرحوم السيد –عبد الأعلى- السبزواري "قدس سره"

أقول : إنّ المرحوم المرجع السيد عبد الأعلى السبزواري "قدس سره" لم يكن من العرفاء بالمعنى المشهور اليوم أبداً ولم يكن واحد منهم, بل هو ضد مسلكهم كما سيتّضح من خلال ترجمته, فتسميةُ السيد السبزواري بالعارف وخلطه مع العرفاء المتصوّفة هو أسلوب تمويه وخداع للناس الغرض منه كما أسلفنا إضفاء شرعيةٍ بأي وسيلة على المسلك العرفاني المزيّف المنحرف!

ترجمة السيد عبد الأعلى السبزواري "قدس سره":
هو السيد عبد الأعلى بن السيد علي رضا بن السيد عبد العلي الموسوي السبزواري, وينتهي نسبه إلى محمد العابد ابن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام).
المصدر: ورثة الأنبياء , محمد أمين نجف, ص524.
عالم مجتهد جليل مفسّر رياضي أخلاقي, من أساتذة الفقة والأصول, جامع للمعقول والمنقول ومن أئمة الجماعة والفتيا, ولم يزل يواصل التدريس والبحث والتحقيق, وهاجر إلى النجف الأشرف, وتتلّمذ على الشيخ محمد حسين النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي, والسيد أبو الحسن الاصفهاني, ثم تصدّى للتدريس, وكان متواضعاً ورعاً صالحاً تقياً عُرف بالورع والخير والهدوء والجد والاجتهاد.
ومن مؤلفاته : إفاضة الباري في نقد ما ألفه الحكيم السبزواري (صاحب المنظومة) , أحكام العدد في الوطي المحرّم , التقية , حاشية بحار الأنوار . حاشية تفسير الصافي , حاشية جواهر الكلام , حاشية العروة الوثقى , حاشية الوسيلة , لباب المعارف , مناسك الحج , مواهب الرحمان في تفسير القرآن ط , مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام 1-30 ط, جامع الأحكام ط, تعليقة على العروة ط, منهاج الصالحين 1-2 ط.
المصدر : معجم رجال الفكر والأدب في النجف, ج2 ص665.
وقد ذكر السيد ضياء الخبّاز من مؤلفات السيد السبزواري على صعيد الحكمة والكلام كتاب إفاضة الباري في نقض ما كتبه الحكيم السبزواري، فقال تعليقاً عليه :
وقد كتب السيّد السبزواري "قدس سره" هذا الكتاب لنقض بعض المباني الفلسفيّة التي أسّسها وبنى عليها الفيلسوف الملا هادي السبزواري.
المصدر: العارف ذو الثفنات، ضياء الخباز، ص139.
كما يعد تفسيره المسمّى (مواهب الرحمن في تفسير القرآن) من أشهر مؤلفات السيد السبزواري "قدس سره", وقد استخدم في شرحه بعض المصطلحات الفلسفية والعرفانية لذلك استغل العرفاء والمتزلفون لهم هذا الأمر فادعوا كذباً وزوراً بأن السيد السبزواري من العرفاء المتصوّفة!
ويرد ذلك ما ذكرناه في المقدمة من أنّ العرفاء يعتقدون بوحدة الوجود والموجود فلا يوجد عارف إلا ويعتقد بها بينما كان السيد عبد الأعلى السبزواري "قدس سره" يرفض كل أشكال وحدة الوجود جملةً وتفصيلاً .
يقول (أعلى الله مقامه) : ومنها: الوحدة في عين الكثرة، أو وحدة الوجود وكثرة الموجود، ولا ريب في أنّ اللّه تبارك و تعالى منزّه عن هذه التصورات ولكن الظاهر عدم رجوعهما إلى إنكار الضروري. ومنها: الوحدة الواقعية الشخصية، بأن يكون اللّه تبارك وتعالى عين الكلّ، و الكلّ عينه تعالى, ولا ريب في أنّه إنكار للضروري.
المصدر : مهذب الأحكام للسيد السبزواري ج1 ص388.
فتلاحظ أخي القارئ أن السيد عبد الأعلى السبزواري رافض لاعتقاد العرفاء مُــنَــزّه لله سبحانه وتعالى عن معتقد العرفاء الباطل,  وقد أكد في نص آخر أنّ القرآن الكريم ينفي جميع أنحاء الوحدة  مع الله سبحانه وتعالى.
قال "قدس سره" : والقرآن الكريم ينفي جميع أنحاء الوحدة عنه عزّ وجلّ، سواء كانت وحدة عدديّة أو وحدة نوعيّة أو جنسية أو أية وحدة كلّية مضافة إلى كثرة، فإنّ جميعها مقهورة بالحدّ والنسب والإضافات، والله تعالى هو المنزّه عنها، ولا يقهره شيءٌ، فليس بمحدود في شيء يرجع إليه، فهو موجودٌ لا يشوبه عدم، وحقّ لا يعرضه بطلان، وهو الحيّ الذي لا يخالطه موت، والقادر الذي لا يعجزه شيء، والعليم الذي لا يدب إليه جهل، والعزيز الذي لا ذلّ له.
المصدر: مواهب الرحمن ، السيد السبزواري،  ج12ص96.
وقد ردّ السيد السبزواري في تفسيره استدلال العرفاء على وحدة الوجود بقوله  تعالى {وَكانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً}!
فقال "قدس سره" : مفهوم الإحاطة و المحاط متقوّم بالاثنينية لغةً وعقلاً . فتوهم وحدة الوجود من مثل هذه التعبيرات في الآيات المباركة-كما زعم جمع من الفلاسفة والعرفاء-باطل، فضلاً عن وحدة الوجود و الموجود كما زعم جمع من خواص العرفاء و الفلاسفة، وسيأتي تفصيل هذه المذاهب و فسادها في محالها إن شاء اللّه تعالى.
المصدر : مواهب الرحمن, السيد عبد الأعلى السبزواري, ج1 ص143-144.
فتلاحظ أخي القارئ أنّ السيد السبزواري يرى ضلال الفلاسفة والعرفاء وفساد مذاهبهم وبطلان استدلالهم! بل صرّح بضلال شيخ العرفاء الأكبر ابن عربي وابن الفارض والحلاّج وغيرهم.
فبعد أن عرض مقطعاً من دعاء أمير المؤمنين عليه السلام ((إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء النظر اليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور ، فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك)) يقول "قدس سره" : وهذا غاية كمال العارفين التي دعا إليها الأنبياء والمرسلون, وما سوى ذلك مما دعا إليه بعض العرفاء كابن الفارض ومحيي الدين -ابن عربي- والحلاج ونحوهم وما نسب إلى بعض الشيخية على ما صرح به في شرح الزيارة الجامعة ، فإنّ ذلك خروج عن الحق القويم وابتعاد عن الصراط المستقيم.
المصدر : مواهب الرحمن, السيد عبد الأعلى السبزواري, ج8 ص224-225.

وقد اعترف السيد منير الخبّاز في تسجيل مرئي بأنّ السيد عبد الأعلى السبزواري من الذامين المحذرين من ابن عربي وأفكاره المنحرفة فقال : العظيم السيد عبد الأعلى السبزواري كان يذمه ويحذّر منه, من محيي الدين بن العربي!
المصدر : محاضرة بعنوان : ظمأ القلب ومعين العرفان, الدقيقة (46:35).

وذكرنا في المقدّمة أن أهل العرفان المزّيف يعظّمون رموز التصوّف كالحلاّج وابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم وهذا كاشف عن أن السيد السبزواري ليس منهم.

وقد شرح السيد السبزواري "قدس سره" في تفسيره كيف نشأت فكرة  وحدة الوجود نتيجة ابتعاد الناس عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فيقول "أعلى الله مقامه" : أخذ كلّ فرد من آحاد الناس في حدود فهمه الذي آتاه الله  عزّ وجلّ يفسر التوحيد بحدود فهمه وحسب ما يراه ويدركه من المعاني, فظهرت مذاهب فيه, والقرآن الكريم بيّن الحقيقة الناصعة في هذا الأمر المهمّ بأحسن أسلوب وأتم بيان, وكان للأئمّة الهداة صلوات الله عليهم, ولا سيّما سيّد الموحّدين منهم أمير المؤمنين عليهم السلام, الدور الكبير في شرح معناها وبيان خصوصياته, ... ولكن ظهور الشبهات وادّعاءات بعض العلماء ولا سيّما المتصوّفة من المكاشفات, وتنازع الفرق فيما بينهم, أوجب الغموض والبعد عن الحقيقة والابتعاد عن منبع النور, وما ورد في كلمات حَمَلة الوحي وخزّان العلم, فأثبتوا للتوحيد معانٍ جديدة, وأوّلوه بتأويلات عديدة, حتى ظهرت وحدة الوجود بل وحدة الوجود والموجود , الذي اعتبروه من أقصى درجات التوحيد وأكملها ,حيث له مراتب ودرجات, منها توحيد العوام , وتوحيد الخواص, وتوحيد الصفات, وتوحيد الذات وبعض كلماتهم واعتقاداتهم يرجع إلى الكفر الصريح .
ونحن لا ننكر بأنّ للتوحيد مراتب حسب القرب والبعد عن الله تعالى , إلا أنّ ما ذكروه يحتاج إلى شرح وتفسير, لا سيّما وأنّ بعض القائلين بوحدة الوجود من أعاظم الحكماء والمتألهين والعرفاء الشامخين, فإن أمكن تأويلها بما يوافق الشرع فنعم الوفاق, وإلا فيرد العلم به إلى أهله إن لم تكن مخالفة لصريح الشرع المبين.
المصدر : مواهب الرحمن, السيد السبزواري,ج12ص128.
فكما تلاحظ أخي القارئ الكريم أن السيد السبزواري يرفض عقيدة العرفاء ويرى فسادها وضلال المعتقد بها مشيراً إلى أنّ تكوّن هذه العقيدة الفاسدة كان نتيجة لابتعادهم عن أهل البيت عليهم السلام.
وقد يقول قائل أن السيد السبزواري  يرى إعذار كبار العرفاء بقوله (إلا أنّ ما ذكروه يحتاج إلى شرح وتفسير, لا سيّما وأنّ بعض القائلين بوحدة الوجود من أعاظم الحكماء والمتألهين والعرفاء الشامخين, فإن أمكن تأويلها بما يوافق الشرع فنعم الوفاق)

أقول : أولاً : نحن هنا بصدد إثبات أنّ السيد السبزواري "قدس سره" ليس من العرفاء بالمعنى المشهور وهذا الأمر  قد تجلى كالشمس في واضحة النهار من خلال النصوص التي عرضناها.
ثانياً : السيد السبزواري "قدس سره" اشترط في الإعذار أن تكون تصريحات العرفاء مُحتملة التأويل فقال : (فإن أمكن تأويلها بما يوافق الشرع) فإذا لم يحتمل النص التأويل وكان ظاهراً في الانحراف فلا تأويل, وقد عرضنا فيما سبق نصوصاً عديدة للعرفاء لا يمكن تأويلها بأي حال من الأحوال كقولهم (أنا الحق) وقولهم (ليس في جبتي سوى الله) التي كفّر العلماء قائلها والمتفوّه بها.
ثالثاً : قد وضع السيد السبزواري شرطا آخر وهو قوله (إن لم تكن مخالفةً لصريح الشرع المبين) ومن الواضح أن تصريحات العرفاء التي ذكرناها  كقولهم (أنا الحق) وقولهم (ليس في جبتي سوى الله) و قولهم (سبحاني ما أعظم شأني) هي مخالفة لضروريات الدين كما نص على ذلك العلماء الأبرار.

أما عن استخدام السيد السبزواري "قدس سره" لمصطلحات الفلسفة والعرفان, فإن استخدام علمائنا الأبرار  لهذه المصطلحات لا يعني اعتقادهم بمبانيها الفاسدة, وقد كان هدفهم إبطالها والرد عليها في الصميم وقد تعدى بعض علمائنا ذلك حتى تسمّى بالصوفي لكي يتغلغل في أوساط المتصوّفة ويجرّهم إلى الهدى كما فعل ذلك المجلسي الأول.
يقول العلامة محمد باقر المجلسي رحمه الله : إياك أن تظن بالوالد العلامة نوّر الله ضريحه أنه كان من المتصوّفة, ويعتقد مسالكهم ومذاهبهم, حاشاه عن ذلك وكيف يكون ذلك وهو كان آنس أهل زمانه بأخبار أهل البيت عليهم السلام وأعلمهم وأعملهم بها, بل كان سالك مسالك الزهد والورع, وكان في بدو أمره يتسمّى باسم التصوّف ليرغّب إليه هذه الطائفة- الصوفية- ولا يستوحشوا منه, فيردعهم عن تلك الأقاويل الفاسدة والأعمال المبتدعة, وقد هدى كثيراً منهم إلى الحق بهذه المجادلة الحسنة, ولما رأى في آخر عمره أن تلك المصلحة قد ضاعت, ورفعت أعلام الضلال والطغيان, وغلبت أحزاب الشيطان, وعلم أنهم أعداء الله صريحاً تبرأ منهم, وكان يكفرهم في عقائدهم الباطلة وأنا أعرف بطريقته, وعندي خطوطه في ذلك.
المصدر : عقائد الاسلام , العلامة المجلسي, 94-95.

الخلاصة :
تبيّن من  خلال ما تقدّم أنّ السيد عبد الأعلى السبزواري "قدس سره"  ليس من العرفاء المتصوّفة كما يحاول بعض المفتونين بالعرفان المزيف تصويره ليضفوا شرعيةً على ذلك المنهج المنحرف بإقحام الأسماء الشريفة فيه. بل كان السيد السبزواري طاب ثراه محارباً لهم مخالفاً لمنهجهم, وقد عرضنا موقفه من عقيدة وحدة الوجود وكثرة الموجود حيث اعتبرها مخالفةً لتنزيه الله سبحانه وتعالى , كما عبّر عن الوحدة الشخصية بأنها إنكار للضروري أي كفّر القائل بها, بينما تجد العرفاء المتصوفة يبررون تصريحات الحلاّج والبسطامي وابن عربي ليخرجوهم من الكفر والزندقة إلى كمال الإيمان! ومن جهة أخرى لم يُعطِ السيد السبزواري أيّ قيمة لأرباب التصوّف كابن عربي وأمثاله بل كان يُحذّر منهم ومن مناهجهم الفاسدة المنحرفة.
فلم يكن السيد السبزواري ينتمي لأي قسم من الأقسام القديمة أو الحديثة من العرفان المزّيف الذي يُحاول السيد منير ترقيع وجهه القبيح بعمليات جراحية تجميلية ترقيعية فاشلة.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
15/شعبان/ 1436هـ
ذكرى مولد الإمام المهدي عجّل الله فرجه
طالب علم

الخميس، 4 يونيو 2015

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير "الحلقة الثامنة"

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن أعداءهم
يحاول المتصوّفة التشبّث بكل قشة لإثبات معتقدهم الباطل (وحدة الوجود) فيتمسكون بالمتشابه من الآيات والروايات ومن ثمّ يجنحون إلى تأويلها بما يوافق عقيدتهم الباطلة دون ردها إلى المحكم ! أو يتمسّكون بظواهر النصوص الدينية كما يفعل الوهابيون المجسّمة حيث يثبتون لله تعالى الأعضاء كالوجه واليد والساق وغيرها من خلال ظواهر الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية!
ومن بين ما استدل به السيد منير الخبّاز لإثبات صحة عقيدة العرفاء الخرافية (وحدة الوجود) ما جاء في دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفه.
قال عليه السلام : كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا...
المصدر: بحار الأنوار , المجلسي, ج95 ص225-226.
فيقول العرفاء بأنّ هذه الموجودات هي ظهور الله تعالى بصورها! بل هي عينه! (والعياذ بالله) استناداً لهذا المقطع من دعاء عرفة.
وكما هي عادتنا في التوثيق نطرح بين أيديكم أولاً مقطع التسجيل المرئي :
يقول السيد منير : وهذا ما يُستدل من الأدعية الشريفة "يا من دل على ذاتهِ بذاتهِ" يعني أنا لم استدل عليك بمخلوقاتك بل بنورك الذي قذفتهُ فِي قلبي، "يا من دل على ذاتهِ بذاته، بك عرفتك وأنت دللتني عليك"، لأنك وضعت نورك وتجليت في قلبي، لذلك أدركت نورك إدراكًا قلبيًا وجدانِيًا. ويستدلون على هذا بالدعَاء الوارد عن الِإمام الحُسين فِي يوم عرفة، "كيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ في وُجودِهِ مُفْتَقِرٌ إلَيْكَ؟! أيَكونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟، متى غبت حتى تحتاج ِإلى دليل يدل عليك ومتى كانت الآثار هِي التِي تدل عليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا وخسرت صفقة عبد لم تجعل من ودك نصيبا".
أقول : أجبنا على القسم الأول في الحلقة السابعة من هذه السلسلة وفي هذه الحلقة سنناقش بإذن الله تعالى القسم الثاني وهو الاستدلال بدعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة.
وبيان ذلك في عدة نقاط:
أولاً : لا بدّ من إرجاع المتشابه من أقوال المعصومين عليهم السلام للمحكم فلا نأخذ بأي رواية أو أي نص من كلامهم صلوات الله عليهم ثم نبني عليه معتقداتنا قبل رده إلى المحكم والرجوع إلى الأصول في الاعتقاد.
وقد أمرنا الأئمة الأطهار عليهم الصلاة السلام برد المتشابه من كلامهم إلى المحكم : عن الإمام الرضا عليه السلام قال : من رد متشابه القرآن إلى محكمة هُدي إلى صراط مستقيم ثم قال : إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.
المصدر: عيون أخبار الرضا (ع) , الشيخ الصدوق , ج 2 , ص261.
فلابد من إرجاع المتشابه من النصوص إلى المحكم كما أمرنا الإمام الرضا صلوات الله عليه وإلا وقعنا في الضلال والانحراف.
وبالرجوع إلى المحكم من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تنتفي الشبهة التي يروجها العرفاء الذين يتمسكون بالمتشابه دون المحكم.
قال الله تعالى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}.

ثانياً: هل ما قاله الإمام الحسين عليه السلام يدل على الوحدة المزعومة؟
يقول عليه السلام: (كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟) أي أن الله تعالى مستغنٍ حتى عن مخلوقاته في الدلالة عليه فهي المفتقرة إليه وهو خالقها.
ويؤكد الإمام مرة أخرى على ذلك ويثبت الغيرية لله تعالى بما لا يدع مجالاً للشك. فيقول عليه السلام (أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون المُظهر لك؟) فالإمام عليه السلام هنا يؤكد على أن الله تعالى مستغنٍ عن مخلوقاته في إظهار عظمته والدلالة عليه, فاحتياج مخلوقاته إليه واستغناؤه عنها تعالى دال عليه, إن الله تعالى ظاهر باستغنائه عن خلقه واحتياج خلقه إليه فهل لمخلوقاته هذا الظهور؟!
وهل مخلوقاته ظاهرة باستغنائها عن خالقها؟
فالإمام يثبت هنا استغناء الله تعالى حتى عن خلقه في الدلالة على وجوده لأن احتياجها في كل شيء إليه تعالى واستغناءه المطلق عنها دال عليه.
فما علاقة هذا بوحدة الوجود ؟!
ثالثاً : مشكلتنا مع أدعياء وحدة الوجود أنهم كالوهابية لا يفقهون كلام العرب وكناياته, فالأوائل في صدر الإسلام لم يكن لديهم مشكلة في فهم معنى اليد والوجه ولم يظنوا لحظةً أنها على وجه الحقيقة يد أو وجه بالمعنى العضوي, بل هي كنايات معروفة في لغة العرب.
بنفس هذا المنطق يفكّر أدعياء وحدة الوجود, وإلا فإن من عاصر الأئمة عليهم السلام لم يفهم كلامهم كما فهمه هؤلاء المتصوّفة.
يقول الإمام عليه السلام : (أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون المُظهر لك؟)
يقول ابن منظور : وظَهَرَ الشيءُ يظهَر ظُهُورًا تبيَّن وبرز .
(لسان العرب)
الظهور يعني البروز, فعندما نقول فلان بارز في البلاد أو بارز في المجتمع, هل يعني ذلك أنه متّحدٌ بهم؟! أم نقصد أنه متفرّد عنهم ومتميّز عنهم ؟
فظهور الله تعالى في خلقه يعني تمايزه عن خلقه وتفرّده عنهم, وهذا إثبات لغيريته ووحدانيته تعالى وليس العكس!
لذلك يؤكد مولانا الحسين عليه السلام على ذلك بإثباته أن الله تعالى مستغنٍ عن مخلوقاته في إظهار عظمته! (أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك) فلله تعالى صفات تميّز بها عن خلقه فهو مستغنٍ عنهم في الدلالة عليه, وأحد تلك الصفات استغناؤه المطلق عنهم واحتياجهم إليه تعالى.
يقول السيد المدرسي : وحكم العقل بأن الله لا تصل إليه منفعة من لدن خلقه والظهور بعد الخفاء نوع من المنفعة، و لذلك نقرأ في الدعاء المأثور :
" كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك " .
المصدر: تفسير من هدى القرآن , السيد محمد تقي المدرسي, ج14 ص54.
أقول: أين هذا ممّن يقول إن الله عين كل شيء؟ أو أن الموجودات هي ظهور الله تعالى بصورها؟!

رابعاً : هناك فرق شاسع بين كلام الإمام الحسين عليه السلام وبين ما يدعيه هؤلاء المتصوّفة, فإنّ الإمام يقول بأن الله تعالى متميّز عن خلقه مستغنٍ عنهم, ولكن العرفاء يقولون بأن المخلوقات هي عين ذات الله ولا مغايرة بينهما!! بل الله محتاج إلى مخلوقاته لكي يظهر بها!
وهنا نعرض بعض النماذج من كلام العرفاء في نفي الغيرية بين الله تعالى ومخلوقاته:
يقول القيصري : اعلم أن ظهور عينه -أي السالك- له عين ظهور الحق –الله- له ورؤية صورته –السالك- عين رؤيته الحق –الله-، لأن عينه الثابتة ليست مغايرة للحق (الله) مطلقاً، إذ هي شأن من شؤونه وصفة من صفاته واسم من أسمائه. وقد عرفت أنه من وجه عينه ومن وجه غيره، فإذا شاهدت ذلك، شاهدته. ومن هنا قال الحسين المنصور الحلاج قدس الله سره:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا *** نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته *** وإذا أبصرته أبصرتنا
فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسمائه وظهور أحكامها.
المصدر : شرح فصوص الحكم, القيصري, ص435-436.
أقول : إنّ قول القيصري (ورؤية صورته عين رؤيته الحق) هو شرح للبيت الثاني من قصيدة الحلاج الكفرية:
فإذا أبصرتني أبصرته *** وإذا أبصرته أبصرتنا
فإذا رأيت الحلاج رأيت الله وإذا رأيت الله رأيت الحلاج! فهو هو!
فهذا معنى الظهور عند العارف القيصري صاحب أعظم شرح لفصوص الحكم والذي يدّرسه العرفاء في الحوزة!
ويقول شيخهم الأكبر ابن عربي : إنّ اتصاف الممكنات بالوجود هو ظهور الحق –الله- لنفسه بأعيانها!
المصدر : الفتوحات المكية , ابن عربي , ج1 ص328.
أقول : أي أنّ الله ظهر بصور الممكنات! والعياذ بالله!
وقال أيضاً : إن للحق في كل خلق ظهوراً فهو الظاهر في كل مفهوم، و هو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال –أي العرفاء- إن العالم صورته و هويته!
المصدر: فصوص الحكم, ابن عربي, ص68.
وقال أيضاً : فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي, فلا قرب أقرب من أن تكون هويته –الله- عين أعضاء العبد و قواه، و ليس العبد سوى هذه الأعضاء و القوى فهو حق مشهود في خلق متوهم!
المصدر :فصوص الحكم ،ابن عربي, ص 108.
أقول : إنّ الهوية تعبير يقصد به في الفلسفة حقيقة الشيء التي تميزه عن غيره، فالله تعالى حسب تصريح ذلك الزنديق حقيقته هي عين أعضاء العبد وقواه! أي قلباً وقالباً! والعبد ليس سوى تلك الأعضاء والقوى التي هي عين هوية الله! تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
وقال ابن عربي أيضاً : و هو –الله- من حيث الوجود عين الموجودات!
المصدر: فصوص الحكم, ابن عربي, ص76.
وقال أيضاً : إن العارف من يرى الحق –الله- في كل شي ء، بل يراه عين كل شيء!
المصدر: فصوص الحكم, ابن عربي, ص192.
أقول : تنبهوا! ولا تتوهموا ! بل إن هذا الزنديق بنفسه لا يترك لكم مجالاً للتوهم! بكل وقاحة وجرأة على الله وزندقة مُبينة يقول (بل عين كل شيء!!) فيقول لكم لا تتوهموا أيها السذج أني أعني بقولي (يرى الحق في كل شيء) مظاهر العظمة!
كلا بل يقول (عين كل شيء) أي قلباً وقالباً!

ويقول الخميني : فالظهور كلّ الظهور، له –الله-  و البطون كلّ البطون، له –الله-. لا ظهور لشيء من الأشياء, ولا بطون لحقيقة من الحقائق, بل لا حقيقة لشيء أصلاً. كما في دعاء يوم عرفة لمولانا وسيّدنا أبي عبدالله الحسين روحي له الفداء:…أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك... ، إلى آخر . صدق ولي الله .…وبهذا ينظر كلام الأحرار : العالم خيال في خيال!
المصدر: مصباح الهداية, الخميني, ص88.
أقول : تلاحظ أخي القارئ الفرق بين كلام مولانا الإمام الحسين عليه السلام الذي يثبت الغيرية بين الله تعالى ومخلوقاته، وأنه مستغنٍ عنهم وهم محتاجون إليه وبين تصريح الخميني الذي ينكر وجود الأشياء بل يعتبر أن ظهورها هو ظهور الله ! تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
وقد قلنا  أنّ من معاني  الظهور في اللغة البروز , فعندما نقول فلان بارز في البلاد أو بارز في المجتمع نقصد أنه متفرّد عنهم، ومتمايز عنهم وعديم النظير, فظهور الله تعالى في خلقه يعني تمايزه عن خلقه تعالى وتفرده عنهم فاللفظ والتعبير على سبيل الكناية وقد وظفوه لمعنى لا يستقيم مطلقاً مع السياق! فهذا اللفظ فيه إثبات لغيريته ووحدانيته تعالى وليس العكس! بقرينة انّ مولانا الحسين عليه السلام يؤكد على ذلك بإثباته أن الله تعالى مستغنٍ عن مخلوقاته في إظهار عظمته! (أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهِرَ لك؟) فإنّ لله تعالى صفاتاً تميّز بها عن خلقه لذا هو مستغنٍ عنهم في الدلالة عليه! وأحد تلك الصفات استغناؤه المطلق عنهم واحتياجهم التام إليه تعالى.
ثم إنّ المقطع من الدعاء لا ينفي وجود المخلوقات لكي يقول الخميني: (بل لا حقيقة لشيء أصلاً) وقوله : (العالم خيال في خيال) فالدعاء ينفي فقط احتياج الله لمخلوقاته في الدلالة عليه.

خامساً : ذكر المرجع الروحاني دام ظله معنى قوله عليه السلام (متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك) فقال: أن المقصود من الفقرة الواردة في دعاء عرفة  أن معرفة الله سبحانه معرفة فطرية تكوينية, كما يدلّ على ذلك قول الإمام الصادق عليه السلام لمن قال له : دلّني على ربي : هل ركبت سفينة في البحر فانكسرت بك السفينة حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟
قال : نعم.
قال (عليه السلام) : هل تعلّق قلبك بشيء اعتقدت أنه قادر على أن يخلصك من ورطتك؟
قال : نعم.
قال (عليه السلام) : فذلك هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي, وعلى الإغاثة حيث لا مغيث.
فمعرفة الله تعالى بمقتضى هذا النص معرفة فطرية, ولكنها بسبب الموانع قد يحجبها الإنسان ولا يلتفت إليها, وهذا ما يشير إليه قول النبي الأعظم : ( كل مولود يولد على الفطرة, إما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وحينئذ يحتاج الإنسان إلى إزالة الغبار عنها من خلال تشييد الأدلة والبراهين.
المصدر:  أجوبة المسائل ,الروحاني, ج1 ص304,المسألة رقم (602).

سادساً : رغم أننا بيّنا أن كلام الإمام الحسين عليه السلام مختلف عن أقوال العرفاء وليس له دخل بعقيدتهم الخرافية إلا انّنا آثرنا التنويه إلى أنّ بعض علمائنا لا يُسلّم بأنّ كل ما ورد من دعاء عرفة بدءً من هذه الفقرة: (إلهي أنا الفقير في غناي إلى آخره) كله صحيح النسبة للإمام الحسين عليه السلام, بل يرون أنّ فيه ما هو من إدخالات الصوفية! , ونحن لا نؤيد هذا القول فالصوفية هم من تعدّوا على كلام الإمام الحسين عليه السلام الذي لا يتفق من قريب أو بعيد مع عقائدهم الفاسدة ونسبوه لأنفسهم ومشايخهم أمثال الاسكندري وغيره!
ولكن لا بأس من عرض الرأي القائل بأن ذلك المقطع من إدخالات الصوفية رغم عدم تسليمنا بذلك:
قال العلامة المجلسي: قد أورد الكفعمي "قدس سره" هذا الدعاء في البلد الأمين وابن طاووس في مصباح الزائر ولكن ليس في آخره فيهما بقدر ورق تقريباً وهو من قوله " إلهي أنا الفقير في غناي " إلى آخر هذا الدعاء، وكذا لم يوجد هذه الورقة في بعض النسخ العتيقة من الإقبال أيضاً، وعبارات هذه الورقة لا تلائم سياق أدعية السادة المعصومين أيضاً وإنما هي على وفق مذاق الصوفية، ولذلك قد مال بعض الأفاضل إلى كون هذه الورقة من مزيدات بعض مشايخ الصوفية ومن إلحاقاته وإدخالاته! وبالجملة هذه الزيادة إما وقعت من بعضهم، أولا في بعض الكتب، وأخذ ابن طاووس عنه في الإقبال غفلة عن حقيقة الحال، أو وقعت ثانياً من بعضهم في نفس كتاب الإقبال، ولعل الثاني أظهر على ما أومأنا إليه من عدم وجدانها في بعض النسخ العتيقة، وفي مصباح الزائر ، والله أعلم بحقايق الأحوال .
المصدر: بحار الأنوار, المجلسي, ج91 ص 228.

الخلاصة :
تبين من خلال ما تقدّم بأنّ المقطع المذكور من دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة لا يمت إلى ما ذهب إليه المتصوّفة بصلة بل عباراته تثبت عكس مدعاهم وترد عليهم ولكنهم خذلهم الله يؤولون الآيات والروايات بما يوافق عقيدتهم الباطلة, وأما السيد منير (هداه الله) فإنه يردد ما يقوله العرفاء بغير تأمل, وقد كشفنا بطلان ذلك وبيّنا فساد قولهم .
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
طالب علم
25/رجب/1436 هـ