الأحد، 31 مايو 2015

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة السابعة "


لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير
" الحلقة السابعة "

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن أعداءهم
تحدّث السيد منير الخباز في محاضرة له عن معرفة حقيقة الله من خلاله معرفة حقيقة النفس, وقد ناقشنا هذا الموضوع مفصّلاً  في الحلقة الثانية من هذه السلسلة, ثم ذكر الطرق المؤدية لمعرفة حقيقة النفس وقد بيناها في عدة حلقات.
وفي هذا المقطع جاء السيد منير ليبرّهن على وحدة الوجود ببعض النصوص الواردة عن المعصومين صلوات الله عليهم  .
وهذا هو المقطع المرئي :
يقول السيد منير : فإذا اكتشف الإنسان نفسه اكتشافاً وجدانياً اكتشف ربه اكتشافاً وجدانياً وتبينت له الملازمة بين معرفة النفس ومعرفة الله "من عرف نفسه فقد عرف ربه" يعني من عرف محدودية نفسه معرفة وجدانية عرف اللامحدودية لربه معرفة أيضا وجدانية. وهذه المعرفة النفسية هي التي يتحدث عنها الأولياء وأهل بيت العصمة، هي التي يقول عنها الإمام أمير المؤمنين "يا من دل على ذاته بذاته"، "بك عرفتك وأن دللتني عليك" يعني وصلت إليك وصولا وجدانيا من خلال نفسي لا من خلال أشياء أخرى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ  وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

أقول : بيّنا في الحلقة الثانية من هذه السلسلة الفرق الشاسع بين معنى الحديث (من عرف نفسه فقد عرف ربه) عند علمائنا الأبرار وبين ما يدعيه العرفاء من معرفة حقيقة الله من خلال معرفة حقيقة النفس.
ومما ذكرناه نقلاً عن العلامة السيد عبد الله شبّر "رحمه الله " من معنى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام علّق محالاً على محال، أي كما أنه لا يعرف حقيقة النفس ولا يمكن معرفة حقيقتها كذلك لا يمكن معرفة حقيقة الرب فيجب أن يوصف بما وصف به نفسه، وكذلك من عرف أن نفسه لا يُعرف كنه ذاتها وحقيقتها عرف أن ربه كذلك بطريق أولى.
المصدر: مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار، السيد عبد الله شبّر، ج1 ص204-205.

ومن أراد التفصيل فليراجع الحلقة الثانية تحت هذا الرابط:

يقول السيد منير : وهذه المعرفة النفسية هي التي يتحدث عنها الأولياء وأهل بيت العصمة، هي التي يقول عنها الإمام أمير المؤمنين "يا من دل على ذاته بذاته"، "بك عرفتك وأنت دللتني عليك" يعني وصلت إليك وصولاً وجدانياً من خلال نفسي لا من خلال أشياء أخرى...
أقول: ذكرنا سابقاً أنّ عجز العرفاء المتصوّفة عن إثبات معتقدهم بالدليل والبرهان دفعهم إلى تأويل الآيات والروايات لكي تتوافق مع معتقدهم الباطل (وحدة الوجود).
أما السيد منير الخباز (هداه الله) يردد ما قاله العرفاء من غير تأمل! لأن قول الإمام عليه السلام (بك عرفتك وأنت دللتني عليك) لا يمت إلى الوحدة المزعومة بصلة!
(بك) بمعنى بواسطة رسلك وآياتك, والقرينة على هذا قوله (دللتني عليك) فالله تعالى دلنا عليه برسله وحججه وآياته.
جاء في دعاء الصباح : صَلِّ اللّـهُمَّ عَلَى الدَّليلِ اِلَيْكَ فِي اللَّيْلِ الأَلْيَلِ.
وفي دعاء آخر: اَللّـهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَلِيِّكَ الُْمحْيي سُنَّتَكَ الْقائِمِ بِاَمْرِكَ الدّاعي إلَيْكَ الدَّليلِ عَلَيْكَ.
فالمعصومون صلوات الله عليهم هم الدليل إلى الله وبهم يعرف الله, روى الشيخ الصدوق: خرج الحسين بن علي عليهما السلام على أصحابه فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه. فقال له رجل: يابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله ؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته.
المصدر: علل الشرائع / ج1 ص12 / باب9.

ومعنى (بك عرفتك) هو كقول أمير المؤمنين عليه السلام : (اعرفوا الله بالله) وقد ذكر العلماء له عدة معانٍ , منها: ما قاله الكليني, قال معنى قوله (عليه السلام) اعرفوا الله بالله يعني إن خلق الأشخاص والأنوار والجواهر, فالأعيان الأبدان والجواهر الأرواح, فهو جل وعز لا يشبه جسماً ولا روحاً وليس لأحد في خلق الروح الحاسة ادراك أمر ولا سبب, وهو المتفّرد بخلق الأرواح والأجسام, فإذا نفي عنه الشبهين شبه الابدان وشبه الأرواح فقد عرف الله بالله وإذا شبهه بالروح أو النور فلم يعرف الله بالله.
ويعلق السيد عبد الله شبّر بقوله : توضيح كلامه "رحمه الله" أن معنى قوله عليه السلام اعرفوا الله بالله اعرفوه بأنه هو الله مسلوباً عنه جميع ما يعرف به الخلق من الجوهر والأعراض وما شابهه شيء منها.
ومن المعاني ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد ...وأسند هذا المعنى إلى الكليني قال القول الصواب في هذا الباب هو أن يقال عرفنا الله بالله لأنا إن عرفناه بعقولنا فهو عز وجل واهبها وإن عرفناه عز وجل بأنبيائه ورسله وحججه فهو عز وجل باعثهم ومرسلهم ومتّخدهم حججاً وإن عرفناه بأنفسنا فهو عز وجل محدثها فبه عرفناه, وقد قال الصادق (عليه السلام) لولا الله ما عرفناه, ولولا الله ما عرف الحجج. وحاصل كلامه أن جميع ما يعرف به ينتهي إليه سبحانه وتعالى ويرد عليه .
ومنها: أن يكون المعنى اعرفوا الله بالله أي بما يناسب ألوهيته من التنزيه والتقديس.
ومنها :أن يكون الغرض من هذا الحديث ترك الخوض في معرفته تعالى ... بالعقول الناقصة فينتهي إلى نسبة مالا يليق به تعالى إليه وعلى هذا يحتمل الحديث وجهين:
أحدهما : أن يكون المراد اعرفوا الله بعقولكم بمحض أنه خالقٌ إلهٌ... ثم عولوا في صفاته تعالى وصفات حججه عليهم السلام على ما بيّنوا ووصفوا لكم ولا تخوضوا فيها بعقولكم.
وثانيها: أن يكون المعنى اعرفوا الله بما وصف لكم في كتابه وعلى لسان نبيه (صلى الله عليه وآله)
ومنها: أن يكون المراد من اعرفوا بالله أي بما تتأتى معرفته لكم بالتفكّر فيما أظهر لكم من آثار صنعه وقدرته وحكمته بتوفيقه وهدايته لا بما أرسل به الرسول من الآيات والمعجزات فإن معرفتها إنما تحصل بعد معرفته تعالى.
عن منصور بن حازم قال قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إني ناظرت قوماً فقلت لهم : إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه بل العباد يعرفون به فقال رحمك الله .
وما رواه الصدوق في التوحيد أن الجاثليق سأل أمير المؤمنين عليه السلام هل عرف الله محمد أم عرفت محمداً بالله؟
فقال (عليه السلام) : ما عرفت الله بمحمد (صلى الله عليه وآله) بل عرفت محمداً بالله عز وجل حين خلقه وأحدث فيه الحدود من طول وعرض فعرفت أنه مدبر مصنوع باستدلال وإلهام منه وإرادة كما ألهم الملائكة طاعته وعرفهم نفسه بلا شبه ولا كيف.
المصدر: مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار , السيد عبد الله شبر, ج1 ص 24-25-26.

وقد وُجه سؤال للمرجع الروحاني دام ظله حول معنى (بك عرفتك) فقال دام ظله  :  له معنيان :
الأول : واضح, وهو أنّ الله خلق الإنسان عاقلاً, وبإعمال عقله والنظر في التكوينات فإنه وصل إلى الله سبحانه,وبما أنّ الله تعالى هو المتفضل عليه بالعقل فهذا يعني أنه هو سبب وصوله إليه, وإذا كان هو السبب لمعرفته صحت مخاطبته بالقول : (بِكَ عَرَفْتُكَ) فتكون الباء في (بِكَ) للسببية, ويشهد لهذا المعنى عطف التفسير, حيث عطف على ذلك قوله (وأنت دللتني عليك) فإن هذا قد جاء توضيحاً لذلك .
الثاني : إن هذه فلسفة أخرى لأهل البيت عليهم السلام ليست من قبيل (الإنّ) ولا من قبيل (اللّم) إذ تارة يكون الانتقال من المعلول للعلة, وأخرى بالعكس, وثالث من الشيء إلى نفسه , وهذا هو المراد من (بِكَ عَرَفْتُكَ) , ولكن المعنى الأول أوضح وهو الظاهر من الدعاء.
المصدر :أجوبة المسائل ,ج1ص303-304,  التقليد والعقائد, السيد صادق الروحاني, ص436-437.

أما قول السيد منير: وإلى ما ورد عنه عليه السلام (يا من دل على ذاته بذاته)
أقول :  يجب رد المتشابه من الآيات والروايات إلى المحكم وهذا ما أمرنا به المعصومون صلوات الله عليهم.
عن الإمام الرضا عليه السلام قال : من رد متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم ثم قال : إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.
المصدر: عيون أخبار الرضا (ع) , الشيخ الصدوق , ج 2 , ص261.
فلابد من رد أي نص مخالف في ظاهره لاعتقاداتنا الأصيلة للمحكم.
جاء في دعاء الصباح للإمام علي عليه السلام (يا من دل على ذاته بذاته) فلو بدا ظاهره  متشابهاً فينبغي رده إلى المحكم وهو قوله (تنزه عن مجانسة مخلوقاته وجلّ عن ملائمة كيفياته) وهذا رد على أدعياء وحدة الوجود, فلا وحدة بين الخالق والمخلوق مطلقاً بل هناك غيرية.
يقول العلاّمة المجلسي (قدس سره) في شرح كلمة ( تَــنَــزّهَ ) أي تباعد وتقدّس عن (مجانسة مخلوقاته) أي أن يكون من جنسها إذ لا يشاركه شيء في المهيّة.
المصدر : بحار الأنوار , العلامة المجلسي, ج84 ص344.

الخلاصة :
تبيّن مما تقدّم بطلان ما استدل به العرفاء على معتقدهم الزائف, فقد توضّح للقارئ الكريم بأن العرفاء يبترون النصوص الدينية ثم يستدلون بالمقطع المبتور على هذه العقيدة الباطلة, وقد كشفنا النقاب عن تأويلاتهم السخيفة واستدلالاتهم الضعيفة.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
طالب علم
20/رجب/1436 هـ

السبت، 30 مايو 2015

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة السادسة "


لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير
" الحلقة السادسة "

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن أعداءهم
نواصل تعليقنا على الخطوات التي ذكرها السيد منير الخباز في سبيل اكتشاف النفس بوصفها المقدمة والطريق الموصل لاكتشاف حقيقة الله! وفي هذا المقال سنناقش بإذن الله تعالى الخطوة الثالثة من تلك الخطوات.
وكما هي عادتنا في التوثيق نطرح بين أيديكم أولاً مقطع التسجيل المرئي :
يقول السيد منير :  علمي بالأشياء التي حولي مرئية مسموعة ملموسة مشمومة كلها عن طريق الصور، هذا يسموه علم حصولي، حصول صورة الشيء في الذهن.
وهناك قسم آخر من العلم حضوري يعني حضور نفس الشيء لا صورة الشيء هو بنفسه يحضر مثل علمي بفرحي وحزني وأفكاري هذا ليس نتيجة صورة، هو فكري حاضر عندي، إذا أنا صنعت فكرة ففكرتي حاضرة بنفسها عندي، علمي بفكرتي علم حضوري وليس علم حصولي، لا نحتاج إلى واسطة، الصورة - الفكرة - حاضرة بنفسها عندي، هذا العلم الحضوري الذي نسميه العلم الوجداني، وهو المطلوب في علم العرفان، المطلوب هو هذا العلم لا العلم الحصولي لا الصور، المطلوب هو الوجدان.

أقول : إن العلم الحضوري الذي يقصده السيد منير وكما مثّل له بقوله (مثل علمي بفرحي وحزني وأفكاري) يوقع السيد في فخ التشبيه والقياس, فالله تعالى لا يقاس بخلقه تعالى عن ذلك علواً كبيرا.
إن ما ذكره السيد منير هو إشارة لما يعتقده العرفاء من إمكانية معرفة ذات الله سبحانه وتعالى في حال الفناء معرفة حضورية لأنه  أصبح جزء لا يتجزأ من الذات الإلهية!

يقول الطباطبائي (صاحب الميزان) : معرفة ذات الحقّ –الله- في حال الفناء ممكنة للمخلَصين والمقرّبين من عباد الله وهذا لا كلام لنا فيه وهو صحيح تماماً ولكن مهما بحثنا ومن أي طريق دخلنا فإن ضمير زيد لا يمحى ولا يزول.
فمن جهة أن زيداً صار فانياً –في الله-, وصار زيد هو –الله- أي أن هو –الله- صار قائماً مقام زيد, فلا شيء إلا هو –الله- , ولكن إلى أين ذهب زيد؟ فهذا لا نستطيع أن نقوله!
وإذا سألنا زيداً : من أنت؟ فلن يقول : أنا زيد , ولكنه يقول أنا الحق (أي هو الله) !
المصدر : الشمس الساطعة, الطهراني, ص259.

أقول : ارفع اسم (زيد) وضع بدله اسم (الحلاج) فيصبح النص بهذا الشكل :
الحلاّج فني في الله وصار هو الله ! الله صار قائماً مقام الحلاّج!
فحينما قال الحلاّج أنا الحق, ليس هو المتكلم بل هو الله! فالحلاج يشعر شعوراً وجدانياً أنه فانٍ في الذات الإلهية! فيعلم كنهها ويعرفها معرفة حضورية! مثل علمه بفرحه وحزنه وأفكاره!
 هذه هي المعرفة الحضورية التي يتكلم عنها العرفاء ولكن السيد منير (هداه الله) يعرضها للناس بشكل مبطن!

ذكرنا سابقاً ونكرر القول بأن الله تبارك وتعالى لا تُعرف "حقيقته" وكل من ادّعى ذلك يكون كافراً، وإنما يُعرف الله بمعرفة أوليائه وموالاتهم، وبمعرفة أعدائه والبراءة منهم، وكذلك عرفان الله، وتلك حقيقة الإيمان. وهذا ما جاء عن المعصومين عليهم السلام .
روى الشيخ الصدوق: خرج الحسين بن علي عليهما السلام على أصحابه فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه. فقال له رجل: يا بن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله ؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته.
المصدر: علل الشرائع / ج1 ص12 / باب9
وقد نهوا صلوات الله عليهم عن مجرّد التفكّر في ذات الله تعالى فكيف بادعاء معرفة حقيقتها؟! فإنّ الإنسان عاجز عن معرفة الحقائق التفصيلية لبعض مخلوقات الله تعالى كالجن والملائكة فهو بهذا عن معرفة حقيقة الله أعجز.
إن كل ما ورد من صفات لذات الله تعالى هي فقط لمعرفة صفاته تعالى بما هي صفات، وليس حقيقته وحقيقة ذاته فذاك مستحيل وممتنع عن العقل.
إن الله سبحانه وتعالى يورد صفات الجنة ولكنك مهما اجتهدت في أن تدرك حقيقتها لن تصل! (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فهذه الجنة فما بالك بخالقها!
إن ما يُذكر في القرآن الكريم من صفات الجنة هي أوصاف تطابق بالاسم فقط أوصاف جنان الدنيا وإلا فهي من حيث المصداق لا تعطيك تصوراً مطابقاً لحقيقة الجنة إطلاقاً.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: من تفكّر في ذات الله تزندق! وفي رواية أخرى: من تفكّر في ذات الله ألحد!
إن مجرّد التفكّر وهو يعني التأمل في ذات الله تعالى هو تزندق والمتأمل هو المتعمق.
فكيف بالعرفاء الذين يدّعون معرفة حقيقة الله  وأن معرفة ذات الله ممكنة في حال الفناء لأن العارف فانٍ في الله فحينما تسأله من أنت يقول أنا الحق أي هو الله!
فالمعرفة الحضورية التي يريد السيد منير الخباز إيصالها للناس هي أن تعرف أنك فانٍ في الذات الإلهية وحينما تدرك ذلك يحق لك أن تقول: (أنا الله) وقد بيّن ذلك كمال الحيدري في كتابه العرفان الشيعي فقال :
ينبغي أن يكون الهدف الأسمى هو العود إلى ذلك الأصل واندراج وانطفاء ذواتنا في طيّ الذات الواجبة –الله- كما تندرج القطرة في البحر , وهذا هو معنى الفناء الحقيقي للذات, فلا غضاضة بعد ذلك إذا ما سُئلت القطرة : ما أنتِ ؟ فتقول: أنا البحر!
المصدر : العرفان الشيعي, كمال الحيدري,ص 252-253.
فلا غضاضة -عند العرفاء- إذا ما سُئل الحلاّج ما أنت؟, فقال : أنا الحق!

يقول السيد منير : يعني أن أتعرّف على نفسي وعلى ضعفها وعجزها ومحدوديتها تعرفاً وجدانيا حضوريا بأن أشعر شعورا واضحا كما أشعر بالألم كما أشعر بالفرح، أشعر شعورا وجدانية بضعف نفسي وحاجتها وعجزها ومحدوديتها وأنها في تمام شؤونها هي عين الربط والتعلق بالله عز وجل يجب أن يتحول هذا إلى شعور ووجدان ... وإذا أدرك الإنسان ذلك إدراكا وجدانيا أدرك ربه إدراكا وجدانية.

أقول : وهنا أيضاً وقع السيد منير في فخ التشبيه والقياس فالله تعالى لا يقاس بخلقه تعالى عن ذلك علواً كبيرا. أنا تعلّقت برحمة الله تعالى منذ أن ذرأني لكن الله تعالى ليس متعلقاً بخلقه أبداً وهذا هو الخطأ الفادح الذي لم يلتفت إليه السيد حين دخل في متاهات القياسات الباطلة.
وقد بيّنا سابقاً أن هناك فرق بين أن تقول إن وجود شيء متعلّق بوجود الآخر وبين أن تقول بوجود وحدة بينهما! فالوحدة تعني أن المجال بين الوجودين مجال مشترك! وتعالى الله عن ذلك علواً كبيرا!(*)
(*) راجع تعليقنا على هذه الجزئية في الحلقة الخامسة.

يقول السيد منير : نحن الآن ندرك ربنا إدراك صوري، أنت الآن عندما يقال لك الله تصير عندك صورة إلى الله، حقا لا تقدر تحديد معالم هذه الصورة، لكن تتكون عندك صورة إلى الله، الله صارت صورة في ذهنك، أما الذين عرفوا أنفسهم معرفة وجدانية فإن معرفتهم بالله ليست عبر الصور، لا، بمجرد أن يمر ذكر الله يشعرون بلذة النور في أنفسهم، هناك نور له لذة، له طعم خاص، له نكهة خاصة يشعرون ضمن أنفسهم.

أقول : النور ما هو إلا مادة, فالضوء يتكون من جسميات مادية دقيقة تسمى الفوتونات .
فهؤلاء العرفاء حسب كلامكم أيضاً تنبعث من داخل ذواتهم صورة وجدانية لجمالها  لذة يستشعرونها, فمعنى كلامكم أن مشاعرهم جوهرها يرتبط في خصائصه بخصائص عنصر
"مادي" وهو الضوء! , فبهذا لا تنفك المادة ولو  بخصائصها عن العرفاء حال ذكر الله جل وعلا فهم من هذه الناحية حال سائر الناس حسب كلامكم.
الأمر الآخر هو أنَّ مفاد كلامكم هو أنَّ العرفاء عند ذكر الله تنبعث من ذواتهم صورة إيمان نورانية ذات جمال يستلذونه, أما العوام ترتسم في أذهانهم صورة غير محددة المعالم حسب زعمكم.
عندما يطرق مسمع أحدهم لفظ الأم, فليس بالضرورة أن ترتسم صورة الأم في مخيلته ارتساماً ارتكازياً, بل ينبعث من داخله شعور بنورانية الحنان, وهذه المشاعر لابد مرتبطة بصورة مشهد معين مر مروراً لحظياً, فهناك صورة ذهنية من الأصل.
العارف أيضاً كذلك, إذا قلت أن الناس كلهم ترتسم في بالهم صورة غير محددة المعالم فالعارف كان في يوم من الأيام على هذا الحال قبل أن يرتقي ويصبح عارفاً وفق منهجكم.
وبهذا فإن انتقاله إلى الطور الجديد لن ينفك عن مرور الصورة القديمة الأولى في ذهنه ولو مروراً سريعاً لحظياً فينبعث نتيجة لذلك شعور بالنفور من ذلك التصوّر  فيفضي إلى انبعاث صورة بحسب معتقدهم هي إيمانية نوارنية نابعة من النفس.

يقول السيد منير : الله ليس صورة وإنما الله نور حاضر مسيطر على القلب،{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، فئة خاصة هم الذين هدوا إلى النور أي شعروا به شعورا وجدانيا {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}.

أقول : إن العرفاء يؤولون الآيات والروايات بما يوافق عقائدهم الباطلة بينما نحن نرجع في فهم الكتاب إلى العترة الطاهرة عِدل القرآن.
روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قول الله عز وجل: " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " فقال: هو مثل ضربه الله لنا، فالنبي والأئمة صلوات الله عليهم من دلالات الله وآياته التي يهتدى بها إلى التوحيد، ومصالح الدين وشرائع الإسلام والسنن والفرائض، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المصدر: التوحيد , الشيخ الصدوق, ص157.
يقول العلامة السيد قاسم علي أحمدي : إنّ المراد بها أنّه تعالى هادٍ لأهل السماوات والأرض، كما ورد تفسيرها بهذا المعنى في الأخبار، مثل : ما رواه الصدوق رحمه الله في التوحيد مسنداً عن العباس بن هلال، قال : سألت الرضا عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : {اللّه نور السماوات والأرض} فقال : (هادٍ لأهل السماء وهادٍ لأهل الأرض) .
وفي رواية البرقي : (هدى من في السماوات وهدى من في الأرض ) .
وفى حديث : (هادي من في السماوات ، وهادي من في الأرض ) .
وأيضاً في حديث عمران قال : يا سيّدي ! فأيّ شيء هو ؟ قال عليه السلام : (هو نور بمعنى أنّه هادٍ لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض)
وذكر الصدوق رحمه الله في باب أسماء اللّه تعالى ( النور ) وقال : النور معناه المنير، ومنه قوله تعالى : (اللّه نور السماوات والأرض) أي : منير لهم وآمرهم وهاديهم ، فهم يهتدون به في مصالحهم كما يهتدون في النور والضياء، وهذا توسّع ؛ إذ النور : الضياء ، واللّه عزّ وجلّ متعال عن ذلك علوّاً كبيراً ؛ لأنّ الأنوار محدَثة ومُحدِثها قديم لا يشبهه شيء .
المصدر : تنزيه المعبود في الرد على وحدة الوجود, السيد قاسم أحمدي, ص417.

ألا يعلم هؤلاء أنّ الله تعالى يضرب محض مثال لأفعاله ولمخلوقاته ؟
مثلاً : إحياء الموتى مثّل الله تعالى له بمشهد صوّرَهُ لنا تعالى في سورة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
وعندما مثّل الله تعالى لعيسى عليه السلام قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
وأيضاً مثّل الله تعالى لمخلوقاته:{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}
لكن الله تعالى عندما ذكر ذاته المقدسة قال:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}
فلاحظ أن الله تعالى عندما أتى بمفردة المثل مقترنة بذاته المقدسة لم تأتِ بمعنى الشبيه والنظير وإنما جاءت بمعنى الصفة أو الحجة, أي فلله تعالى الصفة العليا والمثل الأسمى أو ولله الحجة العليا.(*)
*راجع في ذلك كتب التفسير .
 فالله تعالى لم يشبّه أو يمثّل لذاته المقدسة بشيء أبداً, بل قال جلّ شأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
لم يقل تعالى: الله (عين) نور السماوات والأرض أو الله (ذات) نور السماوات والأرض أو الله (نفس) نور السماوات والأرض!
قال تعالى { مَثَلُ نُورِهِ} ولم يقل (مثل ذاته) والنور شيء والذات شيء آخر.
ففي لغة العرب درج عندهم إطلاق المصدر (الصفة) كناية عن كثرة وغلبة الفعل كما ورد في كتب التفسير كمجمع البيان, وهذا كقولهم فلان رحمة وفلان عذاب إذا كثُرَ فعل ذلك منه, وعلى هذا قول الشاعر:
ألم تر أنّا نور قوم وإنما** يبين في الظلماء للناس نورها .
وكذا قول أبي طالب في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، * ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
حينما تقول ( فلان جُودُ العشيرة) كناية عن مداومته على فعل الكرم والعطاء.
الله تعالى ينوّر السموات والأرض بالشمس والقمر ظاهراً، وتأويلاً ينوّرها بهداته والأدلاء عليه محمد وآله الأطهار صلوات الله عليهم، فلغلبة الفعل عبّر الله تعالى بالصفة محل الفعل، وهذه أيضاً يمكن أن تكون نسبة تشريف كقولنا عن الكعبة (بيت الله).
فلم نعلم بالهوى أن المقصود هو فعل التنوير, بل لأننا قرأنا قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فكيف يصف ذاته تعالى بأنه لا شيء مثله ثم يمثل لذاته؟
كلا وإنما المقصود هنا هو فعلُ التنوير.

الخلاصة:
تبيّن من خلال ما تقدم بطلان الطريق الثالث الذي رسمه العرفاء لمعرفه حقيقة الله, وقد عرضنا  بعض نصوصهم ورددنا على شبهاتهم .
ثم عرجنا على الآية التي يستدل بها العرفاء على الوحدة وبيّنا بأن ذلك مخالف لِما ورد عن أهل البيت عليهم السلام من تفسير للآية الكريمة.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
طالب علم
20/جماده الآخر/1436هـ

الجمعة، 15 مايو 2015

الدعاء الرجبي ينسف وحدة الوجود

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن أعداءهم
إنَّ عجْز العرفاء المتصوّفة عن إثبات معتقدهم بالدليل والبرهان دفعهم إلى تأويل الآيات والروايات كي تتوافق مع معتقدهم الباطل في (وحدة الوجود) فيقومون بتحريف معنى الآيات والروايات وإخراجها عن سياقها وموضوعها ثم الاستدلال بها على طريقة (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)!
وقد ناقشنا تأويلاتهم السخيفة في حواراتنا مع كهنتهم وفي بعض مقالاتنا السابقة, وبيّنا هناك بطلان اعتقادهم وتفاهة استدلالاتهم.
ومن النصوص التي بتروها وحرّفوا معناها ما جاء في الدعاء اليومي لشهر رجب المرجّب المروي عن الإمام الحجة صلوات الله عليه : (أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك فجعلتهم معادن لكلماتك وأركاناً لتوحيدك وآياتك ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك)
فيقول العرفاء إن في قوله: (لا فرق بينك وبينها) ! دليلا على صحة وحدة الوجود!
*راجع كتاب مدد الهمم في شرح فصوص الحكم , حسن زاده آملي, ص54-55.

الجواب :
أولاً : قد بيّنا مراراً وتكراراً ضرورة رد المتشابه من الآيات والروايات إلى المحكم, وهذا ما أمرنا به المعصومون صلوات الله عليهم.
عن الإمام الرضا عليه السلام قال : من رد متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم ثم قال : إن في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.
المصدر: عيون أخبار الرضا (ع) , الشيخ الصدوق , ج 2 , ص261.
فلابد من رد أي نص مخالف في ظاهره لاعتقاداتنا الأصيلة للمحكم.
جاء في دعاء الصباح للإمام علي عليه السلام (يا من دل على ذاته بذاته) فلو بدا ظاهره  متشابهاً فينبغي رده إلى المحكم وهو قوله (تنزه عن مجانسة مخلوقاته وجلّ عن ملائمة كيفياته) وهذا رد على أدعياء وحدة الوجود, فلا وحدة بين الخالق والمخلوق مطلقاً بل هناك غيرية.
فحينما نقرأ  في الدعاء (لا فرق بينك وبينها) يجب أن نتذّكر قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد}
وكذلك قول الإمام الصادق عليه السلام : ((إن الله خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وكل ما وقع عليه (شيء) ما خلا الله فهو مخلوق، والله خالق كل شيء، تبارك الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)
المصدر : الكافي , الكليني, ج1 ص82.
وقوله صلوات الله عليه: ((من شبّه الله بخلقه فهو مشرك، إن الله تبارك وتعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه))
المصدر: التوحيد للصدوق ص80.
وقول مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه: ((ولا حقيقته أصاب من مثّله، ولا إياه عنى من شبّهه))
المصدر :التوحيد للصدوق ص35.
ومن خلال هذه النصوص المعصومية نفهم أن المقصود من قوله عليه السلام (لا فرق بينك وبينها)  ليس الفرق في الذات الإلهية كما يريد المتصوّفة, ولا يعني من قريب أو بعيد وحدة الوجود.
ثانياً: إذا خالف ظاهرُ الحديثِ العقيدةَ الحقةَ اقتضى الأمر طرح الحديث أو تأويل معناه بما يوافق العقيدة لا أن نغيّر العقيدة لمجرّد وجود حديث -حتى لو كان صحيح السند فكيف بالضعيف- ونعتقد بعقيدة أخرى!
ثالثاً : إن العرفاء والمتصوّفة يبترون النصوص الدينية ثم يستدلون بالمقطع المبتور لإثبات عقيدتهم على طريقة استدلال منكر الصلاة بقوله (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ)!
فإن المقطع الذي يستشهدون به على وحدة الوجود ليس له دخل بالذات الإلهية فهو يتحدّث عن المشيئة وهي من صفات الأفعال وهي مخلوقة حادثة منفكة عن الذات فالكلام هنا عن الفعل لا عن الذات.
عن إمامنا الرضا عليه السلام : "المشيئة والإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أن الله تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحد"
المصدر: توحيد الصدوق, ص338.
وهنا ننقل الفقرة موضع البحث من الدعاء بتمامها لكي يتوّضح المعنى: قال عليه السلام : (أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك فجعلتهم معادن لكلماتك وأركاناً لتوحيدك وآياتك ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك)
فالمقصود أن الأئمة عليهم السلام لهم الولاية التكوينية والقدرة على التصرّف بالكون, فالموضوع هنا فيما يتعلق "بالأفعال" وهي منفصلة عن الذات, والمعنى أنّ الله تعالى (بإذنه) المقارن للتسديد فوّض إليهم (أفعالاً) هم فيها خلفاء عن الله تعالى ونواب له.
وقد سُئل السيد الخوئي "قدس سره"عن معنى العبارة الواردة في دعاء رجب اليومي (لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك) ؟ فأجاب : لعلها تشير إلى أنهم مع بلوغهم في مرتبة الكمال إلى حد نفوذ التصرّف منهم في الكون بإذنك، فهم مقهورون لك، لأنهم مربوبون لك ، لا حيلة لهم دون إرادتك ومشيتك فيهم بما تشاء، والله العالم .
المصدر : صراط النجاة , التبريزي, ج3 ص 317- 318.

فالمقصود إذاً من قوله (لا فرق بينك وبينها) في مشيئة التصرّف في الكون، لا أنك وهم شيء واحد في الذات!
قالوا عليهم السلام:(ونحن إذا شاء الله شئنا) أي أنّ مشيئتهم عليهم السلام في طول مشيئة الله تعالى.
ويقول المجدد الشيرازي الثاني "قدس سره" : ولما سبق من أن الله سبحانه جعل بيدهم (عليهم السلام) الكون، تصدر منهم (عليهم السلام) الخوارق، معجزة وكرامة، بما أنهم أوعية مشيئة الله تعالى، وكذلك ما سبق من أنه تعالى فوّض إليهم التشريع كما ورد (المفوَّض إليه دين الله). ...ومن سنة الله جعله تعالى التكوين والتشريع بأيديهم (عليهم السلام)، وذلك كأن يجعل الشام عراقاً وبالعكس، وكأن يجعل الرجل امرأة وبالعكس، كما في قصة الإمام الحسن (عليه السلام)...ولم نجد تصرُّفهم (عليهم السلام) في التشريع، وإن كان لهم صلاحية ذلك، ولعل السبب في ذلك أن لا يتخذ الحكّام ذلك ذريعة للتصرّف في الأحكام، وبالرغم من ذلك ترى الحكام قد تصرَّفوا في أحكام الله تعالى كما في المتعتين...
ومما تقدم ثبتت الولاية بمعانيها السبعة: كونهم (عليهم السلام) للتكوين علّة، وطريقاً كطريقيّة عزرائيل للموت، وإنه قائم بهم، وكذلك التشريع: علّة وطريقاً، وقياماً، بإضافة أن لهم (عليهم السلام) الحكومة، حيث لا تلازم بين الأخير وسائر أقسام التشريع. .. ويؤيد ذلك ـ بل يدل عليه ـ التوقيع المروي عن صاحب الزمان (أرواحنا فداه) في دعائه: (أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك، فجعلتهم معادن لكلماتك، وأركاناً لتوحيدك وآياتك، ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك وبينها إلاّ أنهم عبادك وخلقك، فتقها ورتقتها بيدك، بدؤها منك وعودها إليك، أعضاد وأشهاد ومناة وأذواد وحفظة ورواد، فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلاّ أنت) إلى آخر الدعاء...ولعل سر ورود الزيارة الجامعة والدعائين لرجب عنهم (عليهم السلام) لبيان الطريق الوسط بين مادية الخلفاء الذين استهتروا فيها وإفراط المتصوّفة القائلين بوحدة الوجود أو الموجود في تلك الأزمنة المتأخرة.
المصدر: مقدمة كتاب من فقه الزهراء, المجدد الشيرازي الثاني, ص25,26,27.

وقد اختلف العلماء في عود الضمير في قوله عليه السلام (لا فرق بينك وبينها) فبعضهم قال بأن الضمير  يعود إلى (آياتك) وبعضهم قال بأن الضمير  يعود إلى (مشيئتك) وقال آخرون أن الضمير يعود إلى (المعاني) المذكورة في أول الدعاء.
يقول المرجع الراحل الميرزا جواد التبريزي "قدس سره" : الضمير في (بينها) في قوله (لا فرق بينك وبينها) يعود إلى آياتك، المراد منها الأئمة (عليهم السلام) ، ومنه يتّضح عود الضمير في قوله (إلاّ أنّهم عبادك) فالمراد بهم الأئمة (عليهم السلام) ، وأمّا قوله: (أسألك بما نطق فيهم من مشيّتك) فهو إشارة إلى كلمته سبحانه وتعالى التي عبّر عنها في كتابه العزيز بقوله: {إنَّمَا أمرُهُ إذا أرَادَ شَيئاً أن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون}، ويدخل في ذلك ما ذكره سبحانه وتعالى في آية التطهير، وفيها دلالة واضحة على أنّ ما امتاز به الأئمة (عليهم السلام) عن سائر الناس ليس أمراً كسبياً، بل هو أمر مما تعلّقت به مشيئة اللّه تعالى، كما هو ظاهر آية التطهير أيضاً. نعم، تعلّق المشيئة مسبوق بعلمه سبحانه بأنّهم يمتازون عن سائر الناس أيضاً في إطاعتهم للّه سبحانه وتعالى حتّى لو لم يعطهم ما تعلّقت به مشيئته كما ورد في دعاء الندبة، واللّه العالم.
المصدر: الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية , التبريزي, ص111-112.

وذهب المرجع الروحاني "دام ظله" إلى كون الضمير عائداً للمشيئة  فقال: وأما الفقرة الأخيرة (لا فرق بينك وبينها) فهي عائدة إلى عبارة أخرى في وسط الدعاء وهي قوله عليه السلام (أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك) فضمير (بينها) عائد إلى (مشيئتك) فكأن المعنى المفهوم من العبارة هو : أنه لا فرق بينك وبين مشيئتك, وإلا أن مشيئتك نطقت في عبادك الذين هم ولاة أمرك.
المصدر : التقليد والعقائد , الروحاني , ص433.

وذكر الروحاني قولاً ثالثاً فقال : وذهب بعض الأكابر إلى أن الضمير في (بينها) يرجع إلى (المعاني) المذكورة في أول الدعاء, لأن معاني أسمائه الحسنى وصفاته تعالى كلها هي نفس الذات فلا فرق بينها وبينه سبحانه إذ لو كانت غيره لكان كل اسم له إلهاً, وكذا تعدد الآلهة بتعدد المعاني والصفات تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
ثم رجع الإمام المهدي أرواحنا فداه في دعائه هذا إلى ما كان فيه من ذكر الأنبياء والأئمة والملائكة بعد قوله (لا فرق بينك وبينها) وهذا يسمى في علم البديع بالاستطراد ويجوز أن يكون قوله (لا فرق بينك وبينها) في الطاعة لأن طاعته تعالى وطاعة أنبيائه والأئمة المذكورين واحدة, قال الله تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}
المصدر : التقليد والعقائد , الروحاني , ص433.


وفي جواب آخر للمرجع الروحاني "دام ظله" عن هذا المقطع من الدعاء أجاب سماحته :
هذه العبارة أشبه ما يكون بكلمة التوحيد التي أولها كفر لنفي الألوهية وآخرها كمال الإيمان فإن هذه العبارة وإن كانت تبدأ بنفي الفرق بينهم وبينه إلا أنها تختم ببيان تمام الفرق وهو الفرق بين الخالق والمخلوق والفرق بين القدم والحدوث وبين الكمال المطلق وعدم الكمال أي الكمال النسبي الثابت لهم وقد مهد لهذه الجملة الشريفة بقوله (بما نطق فيهم من مشيئتك) فإن فيها إشارة لقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
ودلالة واضحة على أنهم مع ما لهم من الكمال فهم من صنعك ومن موارد إعمال قدرتك والله العالم.
المصدر : التقليد والعقائد , الروحاني , ص434.

ويقول المرجع محمد الحسيني الشاهرودي حينما سُئل عن معنى العبارة: معناه أن كل ما لله تعالى فهو لهم أيضاً، لكن بالعَرَض، فلا فرق بينهم إلا أن الله تعالى جعلهم كذلك فيفعلون بإذنه لا في عرضه بل في طوله، ويمكن التمثيل بالوزير الذي أذن له السلطان بالعمل، فانه يعمل بإذنه ولا يكون شريكا له، بل كل سلسلة المأمورين الصغار الذين يعملون بإذن من فوقهم لا يكونون شركاء، نعم الشريك هو المستقل الذي يعمل بلا إذن ، وفي عرض السلطان لا من يعمل في طوله، كما جاء في القرآن إسناده إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص إلى عيسى والإغناء من الفقر إلى النبي و { أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، وإسناد الإماتة إلى الملائكة، وقد مرّ في الجواب ما يوضح المطلب.
فعقيدة أن المعصومين يفعلون بإذن الله كل ما يفعله الله ليس شركاً، بل يعنى تعظيم الله أكثر، فتلميذ الطبيب كلما قام بعمليات طبية ناجحة جبارة دلّ ذلك على مدى عظمة أستاذه وربّه الذي يعمل بإذنه مستمداً من إمكانياته  .

ويقول الشيخ علي آل محسن في معنى العبارة : ولعل المراد بقوله: «لا فرق بينك وبينها» أي لا فرق بينك وبين آياتك المذكورة قبل ذلك الذين هم أئمة أهل البيت عليهم السلام «إلَّا أنّهم عبادك وخلقك»، وعدم الفرق هنا من الجهات الواردة في الدعاء قبل ذلك حيث قال: «اللهم إني أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك، المأمونون على سرك، المستبشرون بأمرك، الواصفون لقدرتك، المعلنون لعظمتك، أسألك بما نطق فيهم من مشيتك، فجعلتهم معادن لكلماتك، وأركانا لتوحيدك وآياتك ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك».
فإنهم عليهم السلام موصوفون بأنهم مأمونون على سر الله تعالى، وأنهم واصفون لقدرته، ومعلنون لعظمته، وأنهم معادن لكلماته وأركان لتوحيده سبحانه وغير ذلك، فلا فرق بينهم وبين الله تعالى في وصف قدرته والإعلان بعظمته وتبليغ أحكامه وغير ذلك، إلا أنهم عباد لله وخلق من خلقه انتجبهم الله تعالى واختارهم لتبليغ كلماته والدعوة إلى سبيله، ولهذا قال: «يعرفك بها من عرفك» يعني أن من عرفك حق معرفتك فإنه قد عرفك بهذه الآيات وهم أهل البيت عليهم السلام، فلا فرق بينك وبينهم في التعريف بك وبيان أحكامك، فكما أن قولك حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن قولهم كذلك حجة لازمة، لا يحل إنكارها ولا يجوز جحدها، والفرق بينك وبينهم من هذه الناحية هي أنهم عبادك وخلقك يبلغون عنك وأنت رب لهم قد أمرتهم بتبليغ ما بلغوه عنك.
فكل هذه المعاني التي ذكرها العلماء الأبرار صحيحة ومقبولة بحسب الأصول, وكما ترى أخي القارئ فإن المقطع المذكور من الدعاء ليس له شأن بوحدة الوجود لا من قريب ولا من بعيد فالإمام لم يقل (لا فرق بين ذاتك وذواتهم) كما يحاول العرفاء تصويره للناس.

رابعاً : لو جارينا العرفاء  في قولهم وفسرنا العبارة بحسب مبانيهم وقلنا (لا فرق بينك وبينها) أي بين الأئمة و الذات الإلهية (والعياذ بالله) فإن هذا القول لا يدل على وحدة الوجود أيضاً, لأن اللافرقيّة هنا ستكون مقتصرة على الأئمة فقط بينما يدّعي العرفاء وحدة كل الوجود والموجود! وبهذا يسقط استدلالهم من رأس.

خامساً : ثمة حديث آخر يستدل به العرفاء على وحدة الوجود ويزعمون بأنه موافق لهذا الدعاء وهو (لنا مع الله حالات هو هو، ونحن نحن؛ وهو نحن، ونحن هو)
هذا الحديث لا وجود له في مصادرنا المعتبرة وقد نسبه العرفاء إلى المعصومين عليهم السلام وهو من الأحاديث المطروحة بالكتاب والسنة .
فبعض العرفاء ينسب هذا الحديث إلى الإمام الصادق عليه السلام على أنه ثابت الصدور! وبعضهم كالخميني لا ينسبه إلى أحد منهم عليهم السلام بالخصوص فمرة قال : (بلسان أحد الأئمة)! وأخرى قال: (ورد) بدون أن ينسبه إلى أحدهم عليهم السلام!
المصدر: شرح دعاء السحر, الخميني,ص111 , مصباح الهداية, الخميني, ص114.

والخميني يستشهد بهذا الحديث المنكر ليبرّر أقوال ابن عربي الزنديق, لذلك قال بعده : وكلمات أهل المعرفة خصوصاً الشيخ الكبير محيي الدين -ابن عربي- مشحونة بأمثال ذلك؛ مثل قوله: الحقّ خلق، والخلق حقّ والحقّ حقّ والخلق خلق. وقال في فصوصه: ومن عرف ما قرّرناه في الأعداد وأنّ نفيها عين ثبتها علم أنّ الحق المنزّه هو الخلق المشبّه وإن كان قد تميّز الخلق من الخالق فالأمر الخالق المخلوق والأمر المخلوق الخالق إلى أن قال :
فالحقّ خلق بهذا الوجه فاعتبروا***وليس خلقاً بذاك الوجه فادّكروا
من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته***وليس يدريه إلا من له البصر
جمّع وفرّق فإنّ العين واحدة*** هي الكثيرة لاتبقى ولا تذر.
المصدر: مصباح الهداية, الخميني, ص114.

فالخميني يوّظف أمثال هذه الأحاديث المنكرة المعارضة مع الكتاب والسنة في خدمة عقيدته وحدة الموجود ولتبرير أقوال ابن عربي الزنديق الأكبر.
وقد كشف ما في هذا الحديث من خلل, المحقق الكبير آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي "قدس سره" حينما جاء على ذكر المتصوّفة في كتابه شرح إحقاق الحق.
فقال "قدس سره" : رأيت بعض من كان يدّعى الفضل منهم -أي من العرفاء- يجعل بضاعة ترويج مسلكه أمثال ما يعزى إليهم (عليهم السلام) "لنا مع الله حالات فيها هو نحن ونحن هو"وما درى المسكين في العلم والتتبع والتثبت والضبط أن كتاب مصباح الشريعة وما يشبهه من الكتب المودعة فيها أمثال هذه المناكير مما لفقتها أيادي المتصوّفة في الأعصار السالفة وأبقتها لنا تراثاً...
المصدر: شرح إحقاق الحق, المرعشي النجفي, ج1 ص184.

فالرواية منكرة المتن ومرسلة غير مسندة وليست موجودة في مصادرنا المعتبرة, ومع هذا يستدل بها العرفاء لتبرير معتقدهم الزائف!
ولو سلّمنا وقبلنا بهذا الحديث لاقتضى الأمر تأويله كما هو المتبع عند الأصوليين في التعامل مع الروايات غير الثابتة الصدور إذا أمكن تأويلها لتكون موافقة لما صح في الأصول المعتبرة فيكون الأخذ بها على قاعدة التسامح بتأويل الظاهر المخالف وذلك لسد جميع الأبواب في وجه أهل الباطل وعدم ترك أمثال هذه الأحاديث سلاح إغواء بيدهم.

الخلاصة :
تبيّن من خلال ما تقدّم أن الدعاء المروي عن الإمام الحجة عليه السلام والذي جاء فيه (لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك) لا يمت إلى وحدة الوجود بصله, فقد بتر العرفاء النص وأخرجوه عن السياق وأوّلوا معناه إلى وحدة الوجود بينما المقصود باللافرقيّة هنا ما يتعلق "بالأفعال" وهي منفصلة عن الذات, فالمقصود أن الأئمة عليهم السلام لهم الولاية التكوينية والقدرة على التصرّف بالكون.
وقد ذكرنا عدة معانٍ لهذا المقطع نقلاً عن العلماء, منها: أنه لا فرق بينك وبين مشيئتك, وإلا أن مشيئتك نطقت في عبادك الذين هم ولاة أمرك, ومنها : لا فرق بينك وبين (المعاني) المذكورة في أول الدعاء, لأن معاني أسمائه الحسنى وصفاته تعالى كلها هي نفس الذات فلا فرق بينها وبينه سبحانه إذ لو كانت غيره لكان كل اسم له إلهاً, وكذا تعدد الآلهة بتعدد المعاني والصفات تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا, ومنها : أن يكون قوله (لا فرق بينك وبينها) في الطاعة لان طاعته تعالى وطاعة أنبياءه والأئمة المذكورين واحدة, قال الله تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}, وغيرها من المعاني المقبولة الموافقة لما صح في الأصول المعتبرة.
وبيّنا كذلك أنه على فرض قبول قولهم (لا فرق بينك وبينها) في الذات بحسب رأي العرفاء, فإن ذلك لا يدل على مطلبهم, لأن  اللافرقيّة ستكون مقتصرة على الأئمة فقط بينما يدّعي العرفاء وحدة كل الوجود والموجود! وعلى هذا فلا وجه لاستدلالهم بهذا المقطع من الدعاء بأي حال من الأحوال.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
13/رجب المرجب/1436 هـ
ذكرى مولد أمير المؤمنين صلوات الله عليه
طالب علم

الاثنين، 11 مايو 2015

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة الخامسة "

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن أعداءهم
في تسجيل مرئي للسيد منير الخباز ذكر الخطوات التي يسلكها الإنسان في سبيل اكتشاف النفس بوصفها المقدمة والطريق الموصل لاكتشاف حقيقة الله سبحانه وتعالى!
وقد ناقشنا في الحلقة السابقة الخطوة الأولى من هذه الخطوات, وفي هذا المقال سنناقش بإذن الله تعالى الخطوة الثانية.
وكما هي عادتنا في التوثيق نطرح بين أيديكم أولاً مقطع التسجيل المرئي :
يقول السيد منير الخباز: الخطوة  الثانية : أن يدرك الإنسان أن النفس البشرية عين التعلق لا شيء له التعلق، صدر المتألهين الشيرازي - رحمه الله - يقول: لو كان الإنسان شيئاً له التعلق لا أنه عين التعلق لكان مستقلاً في شيئيته عن الله عز وجل وهذا محال. الآن مثلاً لما تقارن نفسك مع أفكارك، أنا إنسان عندي أفكار أو عندي مشاعر، عندما أقارن بيني وبين مشاعري، ما هي النسبة بيني وبين مشاعري؟، يعني مشاعري مصنوعة لي، أنا اللي أصنعها، النسبة بيني وبين مشاعري نسبة الصنع للصانع، مشاعري مصنوعة لي، أفكاري مصنوعة لي، أفكاري مبتدعة مني. هذه الفكرة اللي ارتسمت في رأسك أنت فكرت بفكرة معينة، هذه الفكرة التي ارتسمت في ذهنك وهي مصنوعة لك شيء له التعلق أم أنها عين التعلق؟ شيء له الربط بك أو أنها عين الربط بك؟، يقول لا هذه الفكرة ليست شيئاً مرتبطاً بي بل هي عين الربط بي، لا أنها شيء مرتبط، هي الارتباط هي عين الربط لأن هذه الفكرة ما دامت مصنوعة لي فلا يمكن أن تستقل عني آنٍ من الآنات فكرة لا تستقل عني لأن أنا الذي صنعتها لا يمكن أن تنفك عني وأن تستقل عني في آن من الآنات، فهي في حد ذاتها وفي ذات شيئيتها هي ارتباط بي، فهي عين الارتباط بي لا شيء له الارتباط. يقولون شيء له الارتباط إذا وجد شيئين وحصل بينها ارتباط يقولون هذا شيء مرتبط بذاك، مثلاً الله تبارك وتعالى عندما يضفى على الإنسان علما منه، مو أنا من صنعته، هو أضافه علي، هنا يقال لهذا العلم الذي أفاضه الله على قلبي يقال أنه شيء مرتبط بي أنا إنسان جاهل وهذا العلم نعمة من الله، الله أفاض العلم على قلبي، صار العلم مرتبطاً بي لكن العلم شيء وأنا شيء آخر، أنا شيء والعلم شيء والله ربط بيننا لأنه أنعم بالعلم على قلبي ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ?، لكن الأفكار التي أنا أصنعها ليست علم يضاف إلي، أنا صنعت الفكرة.
أقول: إذا كان السيد منير يقصد بالارتباط هنا الاحتياج والافتقار - وهو هذا ما يقصده كما يظهر من كلامه الذي سيأتي- فهذا الكلام ليس بتام فإنّ الاحتياج والافتقار عنصر من عناصر بشريّة المخلوق وليست هي المخلوق فالإنسان ليس هو الفقر وإنما الفقر شيء من الأشياء المتعلقة ببشريّته.
وسيأتي في كلامنا القادم عدم دقة ما ذكره من عينية الفكرة بالنسبة لصاحب الفكرة.

يقول السيد منير: قال لي أن أعمل مخطط - أنا مهندس مثلاً -، أنا صنعت المخطط، هذه الفكرة التي صنعتها ليست شيء مرتبط بي وإنما هو نفس التعلق والارتباط بي لأنه صنعي فلا يستقل عني لحظة ما... هذه الفكرة ليست شيئاً مرتبطاً بي بل هي عين الربط بي، لا أنها شيء مرتبط، هي الارتباط هي عين الربط ...فهي في حد ذاتها وفي ذات شيئيتها هي ارتباط بي، فهي عين الارتباط بي لا شيء له الارتباط...
أقول: إنّ المثال الذي ضربه السيد منير  حول  تعلّق الفكرة بصاحبها غير دقيق فإن الفكرة غير منطبقة الارتباط والتعلّق بصاحبها ارتباطاً تاماً, فقد تصدر فكرة خيّرةٌ بنّاءةٌ من عقلٍ شرير و يتولى إتمامها وتنفيذها شخص آخر بلا إشراف من صاحب الفكرة مطلقاً.
وبهذا تكون الفكرة مفترقة عن صاحبها ولو من جهة من الجهات، فلا يمكن الادعاء أنها لا تستقل مطلقاً عن صاحبها ومبتدعها من جميع الجهات, فالمثال ليس دقيقاً وصحيحاً بهذا الإطلاق.

يقول السيد منير: الإنسان إذا أدرك أن نفسه هكذا كما يقارن بين أفكاره ونفسه، دعه يقارن بين نفسه وبين ربه، أولم يدرك أن إلى ربه المنتهى {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} وأدرك أن {إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. دعني أقارن بين نفسي وبين ربي، هل أنا شيء مرتبط بربي؟ أو أنا عين الارتباط بربي؟، لو كنت شيئاً مرتبطاً بربي لكان هو شيء وأنا شيء ومن ثم ارتبطنا؟ لا مو هالشكل!
أقول: لقد وقع السيد منير في فخ التشبيه والقياس, فالله تعالى لا يقاس بخلقه، تعالى عن ذلك علواً كبيرا.
والجواب على هذا السؤال الذي لا يخفى على أطفالنا: نعم إن الله تعالى كان ولا أحد ولا خلق. أنا تعلّقت برحمة الله تعالى منذ أن ذرأني لكن الله تعالى ليس متعلقاً بخلقه أبداً وهذا هو الخطأ الفادح الذي لم يلتفت له السيد منير حين دخل في متاهات القياسات الباطلة.

يقول السيد منير: لا ليست نفسي إلا صنعه وإفاضته وعطاؤه، فنفسي مصنوعة له مفاضة منه، فنفسي هي عين التعلّق والارتباط لا إنية لها ولا استقلال لها ولا حقيقة إلا أنها عين الارتباط بالله تبارك وتعالى، هذا إدراك حقيقة النفس أنها عاجزة لا قدرة لها إلا من القادر المطلق، جاهلة لا علم لها إلى من العالم المطلق، ميتة لا حياة لها إلى من الحي المطلق، محدودة لا تتحرر من حدودها إلا باللامحدود المطلق, فهي في تمام شؤونها وتفاصيل وجودها محتاجة إلى المدد، إلى العطاء، إذا أدرك الإنسان أن نفسه بهذا النحو فقد خطا الخطوة الثانية في سبيل اكتشاف النفس.
أقول: سنصرف النظر عن جملة من الأخطاء الواردة في كلامه وسنركّز على خلاصة ما أراده من مقالته الأخيرة هذه.
أراد بكلامه القول: لأن وجودنا قائم بوجود الله تعالى فهذا يعني وحدة الوجود وذاك قول باطل!
هل الله تعالى وصف ذاته المقدسة بالوحدة مع مخلوقاته بما أن وجودها متقوّم بوجوده تعالى؟!
قال تعالى {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
إن الله تبارك وتعالى عبّر عن قيام الوجود الممكن بوجوده تعالى بأن وصف ذاته المقدسة بالقيمومة! فلماذا كل تلك التخرصات؟! وحدة وجود وتعابير تعارض صريح كلام الله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
هناك فرق بين أن تقول إن وجود شيء متعلّق بوجود الآخر و بين أن تقول بوجود وحدة بينهما! فالوحدة تعني أن المجال بين الوجودين مجال مشترك! وتعالى الله عن ذلك علواً كبيرا!
إن المؤمن المتشرّع يلتزم بما ورد في كتاب الله تعالى وما جاء عن العترة، فالله تعالى وصف نفسه بالقيوم, وهذا كاف في إثبات أنه هو العلة المؤثرة في الوجود الممكن وأن وجوده قائم بوجود الله تعالى.
إنهم اختلقوا -لاعتقادهم الباطل بوحدة الوجود- عذراً وهو أنه لا بد من القول بوحدة الوجود باعتبار أن وجودنا متقوّم بوجوده فلو افترضنا أنه قد زال وجوده - من باب فرض المحال ليس بمحال - فإن وجودنا يزول أيضاً. وذلك العذر واضح التهافت، لأن وجودنا كما هو وجود سائر الممكنات إنما هو مستمد منه تبارك وتعالى، وهو الذي خلقه وأوجده، ولا ضرورة لإثبات أنه عين وجوده حتى يُفرض أنه لو زال لزلنا، بل يكفي لإثبات ذلك: القولُ بنظام العلة والمعلول، وإذ ثبت أنه تعالى العلة المؤثرة في وجود الممكنات فقد ثبت أنه بزواله تكون قد زالت، فأي ضرورة للقول بوحدة الوجود؟!
وإذ عرفت أخي القاريء أن وجوده تعالى مغاير لوجود الممكنات؛ تسقط شبهةُ أنه لا مجال لوجود الممكنات، فإن وجوده سبحانه وإن كان بلا حد، إلا أنه مغاير لوجود الممكنات المحدود، والذي أحاط به واجب الوجود تبارك وتعالى، فهو المتحكم فيه وهو الذي ينزله منزله، فالمجال بين الوجودين ليس مشتركاً حتى تُثار مسألة أنه كيف يبقى مجال للوجود الآخر.
ولتبسيط المطلب نقول أجبنا على التالي:
هل قدرة الله تعالى مطلقة أم محدودة؟
هل المجال بين وجودنا ووجود الله تعالى مجال مشترك؟
الجواب: إن قدرة الله تعالى لا حدود لها, أليس الله بقادر –لو أراد-  أن يستمر وجودنا أبداً وسرمداً بلا نهاية وفق نظام محكم دقيق متوازن ؟
فإذن لو أراد الله تعالى بقدرته المطلقة ذلك و فرضنا زواله تعالى ـ من باب فرض المحال ليس بمحال ـ فوجودنا يبقى, فالمجال بين الوجودين ليس مشتركاً, وبهذا تسقط تلك الفرضية الساذجة من رأس.
وعلى كل حال ذلك توهّم مرفوض عند العقلاء في جميع الأحوال فالخالق والمخلوق أحدهما أوجد الآخر ففي كل الفروض لا يوجد وحدة أو اتحاد!
تأمل في هذه الفرضيتين:
الأولى : انعدام الشيئين معاً وإيجاد شيء ثالث: فلا اتّحاد بينهما لأنّ المعدوم لا يتّحد بالمعدوم.
الثانية : انعدام أحدهما وبقاء الآخر: فلا اتحاد بينهما لأنّ المعدوم لا يتّحد بالموجود.
إن فرضتم الأول حسب ذلك التصوّر الهلامي للوحدة فسموها وحدة فناء لا وحدة وجود!
لا وحدة بين الله تعالى ومخلوقاته بأي وجه وإن كل ما يقع في توهّم الإنسان من تكييف صفات الله تعالى يكون الله تعالى خلافه, إن الالتزام بما قاله الإمام الصادق عليه السلام هو الفلاح في الدنيا والآخرة.
فقد قال صلوات الله عليه: "من شبّه الله بخلقه فهو مشرك، إن الله تبارك وتعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه"
المصدر: التوحيد للصدوق ص80.
وعنه أيضاً عليه السلام: (إن الله خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وكل ما وقع عليه شيء ما خلا الله فهو مخلوق، والله خالق كل شيء، تبارك الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
المصدر: الكافي ج1 ص82.
فلا وحدة إطلاقاً بأي وجه من الوجوه بين الله سبحانه وتعالى ومخلوقاته, فهو القائل  سبحانه : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)
إن الذين اتبعوا المتشابه ضاعوا وضيّعوا وأضاعوا, فإن عقل الإنسان عاجز عن الإحاطة بكيفية خلق آدم ابتداءً بدون أب و أم ! والحال أن الخلق من صفات الأفعال فكيف بصفات الذات؟!

الخلاصة:
تبين من خلال ما تقدّم بطلان الخطوة الثانية من خطوات معرفة النفس التي ذكرها السيد منير الخبّاز وهي كما بيّنا لا توصل الإنسان إلى الله تعالى بل توصله للمهالك بتشبيه الله بخلقه!
وقد توضّح أن المثال الذي ضربه السيد منير حول تعلّق الفكرة بصاحبها غير دقيق, فإن الفكرة غير منطبقة الارتباط والتعلّق بصاحبها ارتباطاً تاماً, فقد تصدر فكرة خيّرةٌ بنّاءةٌ عن عقلٍ شرير وبهذا تكون الفكرة مفترقة عن صاحبها.
وبينا بطلان استدلاله على وحدة الوجود بحجة أنه لا بد من القول بوحدة الوجود باعتبار أن وجودنا متقوّم بوجود الله تعالى من خلال قوله (أن يدرك الإنسان أن النفس البشرية عين التعلق لا شيء له التعلق) وأجبنا عليه بقولنا أن الله تعالى عبّر عن قيام الوجود الممكن بوجوده تعالى بأن وصف ذاته المقدسة بالقيمومة على خلقه وليس الوحدة مع خلقه.
فلا وحدة بين الخالق والمخلوق في جميع الأحوال فالخالق والمخلوق أحدهما أوجد الآخر ففي كل الفروض لا يوجد وحدة أو اتحاد.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
طالب علم
8/جماده الآخر/ 1436هـ