الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة السادسة عشر"





لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة السادسة عشر"


مادة البحث:
نواصل التعليق على ما ذكره السيد منير الخبّاز من معاني وحدة الوجود, وفي هذه الحلقة سنناقش بإذن الله تعالى النوع الخامس من تلك المعاني.
وكعادتنا في التوثيق نعرض أولاً محتوى المقطع المرئي لكلام السيد منير ونفرّغه نصياً ثم نعلّق عليه:
١- يقول السيد منير الخبّاز : المعنى الأخير من معاني مصطلح وحدة الوجود هو ماذكرناه في الليلة السابقة وهو وحدة الانتساب, ما معنى وحدة الانتساب? معنى وحدة الانتساب أن الفعل الواحد ينسب إلى الله وإلى العبد. نجي مثلاً إلى عمل يقوم به الإنسان نظير ما في الآية المباركة {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} نقول هذا الرمي الذي صدر عن النبي صلى الله عليه وآله, النبي بدأ المعركة -وهي معركة بدر- بأن أخذ حجرا ورمى به القوم وقال: (شاهت الوجوه) فانقلب الفضاء غباراً {ومَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} هؤلاء-العرفاء- يقولون :هذا الرمي نقدر ننسبه إلى النبي ونقول : (رمى النبي) ونقدر ننسبه لله ونقول: (الله رمى), فعلٌ واحد يمكن نسبته لفاعلين, لله وللعبد, هذا معنى وحدة الوجود, وحدة الوجود يعني وحدة الانتساب نسبة الفعل إلى العبد ونسبة الفعل إلى الله عز وجل, مثلاً تقول: (رأيتك بعيني) ويصح أن تقول: (رأتك عيني) , تقدر تنسب الرؤية إلى العين وتقدر تنسب الرؤية إلى نفسك, يصح أن تقول: (سمعتك أذني), ويصح أن تقول: (سمعتك بأذني), فتنسب السمع إلى نفسك وتنسب السمع إلى الأذن, إذاً بعض الأفعال يمكن نسبتها إلى فاعلين, كذلك ما يصدر من العبد المخلوق يمكن نسبته إلى المخلوق ويمكن نسبته إلى الخالق, نقول : (رمى النبي) ونقول : (الله رمى) {ومَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}هذا المعنى من وحدة الوجود بمعنى وحدة الانتساب.

علاقة سببيّة لا وحدةٌ انتسابيّة!
هذا البيان الركيك ما كنّا نتصور صدوره عن مثل السيد منير!
إن السبب والمسبب والعامل بالسبب ليسوا شيئاً واحداً, هذا ما يُعبر عنه في علم الكلام بالعلاقة السببية, إن القول بأن الله هو المسبب بتأييده وتسديده الفعل الكذائي لا يعني أن هناك وحدة وجود! (معاذ الله).
نسبة الفعل إلى الله هنا من باب التأييد والتسديد فلا يوجد عاقل يأتي لهذه الآيات فيقول إنها تعني وجود وحدة بين الله ومخلوقاته! فهي لا تعدو كونها تبياناً للعلاقة بين السبب والمسبب والعامل بالسبب (العلاقة السببية), وهذا الكلام مفهوم عند العرب في صدر الاسلام فلم يكن لديهم مشكلة في فهم المعنى, ولكن المتأخرين هم من أخذوا بالمعنى الحرفي الظاهري كما يفعل الوهابيون!
وقد يستدل بعض العرفاء بقوله تعالى{يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} لإثبات معتقدهم الباطل وحدة الوجود! وهذا تخبط, فإنّ قولي مثلاً: (أبي يطعمني بيده على مائدة الغداء), ليس كأن أقول: (أبي يطعمني ويسقيني) فالأولى تعني مباشرة الفعل والثانية تأتي بمعنى الإعالة, أي أن الكلام هنا عن أنه سبب في ذلك لأنه رب الأسرة و معيلها, فالسببية بجعل من الله سبحانه وتعالى ولها ذكر في القران الكريم في قوله تعالى :{وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا}
فما يتحدث عنه السيد منير هو علاقة سببيّة لا وحدةٌ انتسابيّة!
ثم إنّ هناك فرق شاسع جداً بين ما بيناه حول العلاقة السببية وبين كلام العرفاء! فالعارف يقول: أن الله بذاته وعينه يطعمني ويسقيني مباشرة! لأنه يعتقد أن الموجودات هي عين ذات الله تعالى وكل أفعالها صادرة عنه! (تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا)
يقول الملا صدرا: إن فعل زيد مع أنه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل الله بالحقيقة!
المصدر: الأسفار الأربعة، ج 6ص374.
ويقول أيضاً: ان الافعال المنسوبة إلى القوى المؤثرة كالمصورة في تصوير الاعضاء وتشكيلها وكالماء والنار في التسخين والتبريد وكالإنسان في افاعيله الصادرة عنه وغير ذلك كلها بالحقيقة صادرة عنه تعالى واقعة بتأثيره مع كمال وحدانيته وفردانيته فكل ما هو مقدور ومجعول لفاعل فهو من حيث صدوره عن ذلك الفاعل صادر عن الحق تعالى كما ان وجود كل ممكن من حيث وجوده شأن من شئون الحق ووجه من وجوهه!!
المصدر : أسرار الآيات, الملا صدرا, ص51.
وبما انّ ناصر مكارم الشيرازي هو من الرجال المعتبرين عندكم على ما نظن فننقل لكم رده على العرفاء في شرحه للآية الكريمة: {ومَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
فقال: إن الذين اعتقدوا بمذهب الجبر مستدلين بهذه الآية فإن الرد عليهم في الآية ذاتها والذين قالوا بوحدة الوجود مستدلين بهذه الآية فإن الرد عليهم موجود في الآية بأسلوب لطيف، لأنه إذا كان المراد بأن الخالق والمخلوق واحد، فلا ينبغي أن ينسب الفعل إليهم تارة وينفي عنهم تارة أخرى، لأن النسبة ونفيها دليل على التعدد، وإذا تجردت الأفكار عن الحكم المسبق والتعصب المقيت لرأينا أن الآية لا ترتبط بأي من المذاهب الضالة، بل هي تشير إلى المذهب الوسط " أمر بين أمرين " فحسب .
المصدر : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ,ج5 ص384-385.
ويقول السيد المدرسي: إننا لا نعلم ظاهراً من الأمر , وهو تحريك القائل والرامي آلته الحربية باتجاه عدوه , ولا ننسى أن هذا التحريك كان في وسط ملايين السنن الإلهية التي لولاها لم يتم شيء, وأن نسبة فاعلية البشر إلى فاعلية تلك السنن ضعيفة جداً جداً مما يجعل السياق ينسب الفعل إلى الله للدلالة على تلك المعادلة .
وإنك لو تأملت في قوله سبحانه {وَمَا رَمَيْتَ- إِذْ رَمَيْتَ- وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}
لتذكرت أن الله لم ينفِ فعل الرمي - بوجه مطلق - من الرامي إذ عاد فأثبته بقوله {إِذْ رَمَيْتَ} ولكنه سبحانه بيّن أنه هو المؤيد بنصره والمسدد لرمية العبد, فهو الرامي الحق.
وهكذا ترى الآية صريحة بوجود ثنائية في دار التحقق, الله وعبده, وليس وحدة كما يزعمون.
المصدر : العرفان الإسلامي , المدرسي, ص289.
وقد سُئل شيخ الطائفة الطوسي عن قولهم . {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} كيف نفى عنهم القتل و(ب)سيوفهم ورماحهم كانت مناياهم ؟
فأجاب رحمه الله : إنما أضاف إلى نفسه لما كان بإقداره وتمكينه والتخلية بينهم و أمره إياهم بذلك وحثهم عليه، ومثله قوله تعالى {ومَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} والمعنى ما قلناه ، كما يقول القائل لغلامه إذا فعل فعلا كان أمره به ما فعلت أنت بل أنا فعلت حيث أمرتك به وحثثتك عليه .
المصدر : الرسائل العشر , الشيخ الطوسي , ص327.


الخلاصة :
تبين مما تقدم أن نسبة فعل العبد إلى الله هو من باب التأييد والتسديد والتسبيب فهو سبحانه من أعطى هذا العبد القدرة وهو الآمر بفعل العمل, وهذا لا يعني أن هناك وحدة وجود! فالمسألة لا تعدو كونها تبياناً للعلاقة بين السبب والمسبب والعامل بالسبب (العلاقة السببية).
وقد عرضنا أقوال العلماء في شرح قوله تعالى: {ومَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وقد بينوا بأن الرد على العرفاء موجود في نفس الآية الكريمة حيث أنها صريحة بوجود ثنائية في دار التحقق, الله وعبده, وليس وحدة كما يزعمون.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
29/شهر رمضان المبارك/ 1436 هـ
طالب علم

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة الخامسة عشر"




لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة الخامسة عشر"


مادة البحث:
نتابع التعليق على ما ذكره السيد منير الخبّاز من معانٍ  لوحدة الوجود, وفي هذه الحلقة سنناقش بإذن الله تعالى المعنى الرابع من تلك المعاني.
وكعادتنا في التوثيق نعرض أولاً محتوى المقطع المرئي لكلام السيد منير ونفرّغه نصياً ثم نعلّق عليه:
١- يقول السيد منير الخبّاز: المعنى الرابع لمصطلح وحدة الوجود: أنّ المراد بوحدة الوجود فناء الممكن في الواجب, ما معنى فناء الممكن في الواجب؟ ما معنى درجة الفناء؟ : أن يصل الإنسان في العبادة إلى حد يفنى في الله فلا يرى لنفسه وجوداً، هذا نتيجة انصهاره في العبادة, إذا انصهر الإنسان في العبادة, إذا انصهر الانسان في العروج نحو الله سيصل إلى درجة أن لا يرى غير الله! لا يرى لنفسه وجوداً ولا إنيةً ولا نفسيةً فلا يرى غير الله , هذه المرتبة المسماة بالفناء هي التي يعبّر عنها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (مارأيت شيئاً إلا ووجدت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه) وهذه المرتبة هي التي يعبّر عنها الحسين بن علي عليهما السلام في دعاء يوم عرفة الوارد عن الحسين عليه السلام (متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من ودك نصيباً) هذه الدرجة المسماة بدرجة الفناء هي التي يسميها العرفاء بوحدة الوجود, وحدة الوجود يعني أن تصل في الانصهار بالعبادة الى درجة لا ترى لنفسك وجوداً بل ترى أن لا موجود إلا الله هذي درجة من العبادة من العبودية إلى الله درجة روحية, درجة وجدانية, يدركها من وصل إليها, عندما نفسر وحدة الوجود بهذا المعنى نحن لا نلغي وجود الإنسان, الإنسان موجود ولا ندعي أن الوجود الإنساني اتحد مع الوجود الواجبي لايعقل اتحاد المحدود مع اللامحدود، هذا كله لا نقول به ولكن نقول قد يصل الانسان من العروج والقرب من الله الى حد أينما يتوجه يرى الله عز وجل {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} هذا المعنى من وحدة الوجود ليس معنىً مستنكراً بل هو ظاهر في عدة من الروايات والأدعية الشريفة.

سوفسطائية مُنيرية:
 قلنا سابقاً إن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام تدعونا للتفكّر في خلق الله والتأمل في آياته والتدبّر فيها وإدراك ما حولنا وإدراك ذواتنا وأنفسنا وهذا خلاف ما يدعو له العرفان الصوفي من عبادة تجعلك في حالة سكر لا تدري ما تقول! والتي يعبّرون عنها بالمحو والمحق وعدم الالتفات إلى الذات وتلك الخزعبلات التي ما أنزل الله بها من سلطان!
إن ما يتحدّث عنه السيد منير ويصوّره على أنه فناء معنوي فهذا من لازمه- عند العرفاء- أن يكون المرء مغيّب العقل عن كل ما يحيط به ولا يرى ما يحيط به ويفقد الشعور بكل شيء وهو هذا الذي يسمونه وحدة الشهود وهو مخالف لتعاليم الكتاب العزيز الذي يحثنا على التعقّل وملاحظة ما حولنا من خلق وإدراكه وتأمله، لا إلى عدم الالتفات إليه والشعور به!
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ, الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
ثمّ إن هذا الذي تتحدثون عنه من شهود قلبي غير متحقق في الوجدان مطلقاً على النحو الذي يدعيه العرفاء! فإنّ حالة الانقطاع إلى الله تعالى تزيد معها حالة الوعي والإدراك لنعم هذا الخالق العظيم والتي من أعظمها شرف الوقوف بين يديه تعالى وهذا الشعور هو "شيء من الأشياء" التي لا تنفك النفس عن استحضارها في حال الانقطاع له جل وعلا وهذه الحالة يستلزم منها ملاحظة المرء "لوجوده" هو على الأقل فأينَ هذا مما يسمونه وحدة شهود؟
إنّ زخارف عرفاء هذا العصر الترقيعية لا تجدي في تجميل الوجه القبيح لكفرياتهم التي سطرتها كتبهم, وليعذرنا سماحة السيد حين نسمي ما ذكره آنفاً سوفسطائية مُنيرية!

تزويقات مُنيرية:
٢- يقول السيد منير: أن يصل الإنسان في العبادة إلى حد يفنى في الله فلا يرى لنفسه وجوداً هذا نتيجة انصهاره في العبادة, إذا انصهر الإنسان في العبادة, إذا انصهر الانسان في العروج نحو الله سيصل إلى درجة أن لا يرى غير الله! لا يرى لنفسه وجوداً ولا إنيةً ولا نفسيةً فلا يرى غير الله...
أقول : ذكرنا سابقاً أنّ المقصود من قول السيد منير (انصهار المعلول بعلته الغائية) هو فناء وانصهار العارف في ذات الله تعالى حتى يصبح شيئاً واحداً متحداً فلا فرق بينهما ولكن السيد منير يمهد إلى ذلك بعناوين أخرى يسيغها المتلقي كالعبادة! فالمسألة لا تعدو كونها تزويقات مُنيرية!
يقول المعلّق على ديوان الخميني: حين يفنى الصوفي العارف في الله ينتفي التفريق بينهما, يصبح هذا ذاك وذاك هذا, لا يعود ثمة أنا وأنت ما داما واحداً, وليس بينهما سر وعلن ما داما متحدين منصهرين!
المصدر : ديوان الخميني المسمى الفناء في الحب,هامش الترجيعات رقم (16).
إن التبرير الذي يسوقه السيد منير للعرفاء هو ذات التبرير الذي يسوقه العرفاء للحلاج والبسطامي! فكما قال السيد منير أنّ العرفاء في حال الفناء (لا يرون أحداً إلا الله) فكذلك قال العرفاء في حق الحلاج والبسطامي!
يقول كمال الحيدري في هذا الخصوص: إن القائلين بذلك -أي أنا الحق وسبحاني وما في الجبة غير الله- هم من السُلاك الذين وصلوا إلى مرتبة لا يرون في الوجود أحداً غير الله تعالى، فهم لا يرون حتى ذواتهم لأنها فنيت في الله تعالى، بمعنى عدم الالتفات لها أبداً!
المصدر: من الخلق إلى الحق, كمال الحيدري, ص95- 96.
وهذه المرحلة من الفناء تسمى بالتوحيد الذاتي وهي الأرقى كما وصفها كمال الحيدري بقوله: وهو الأرقى وبه يصل العبد إلى التوحيد الذاتي فهو الفناء وعدم الالتفات إلى الذات فضلاً عن أفعالها وصفاتها, وبذلك لا يرى العبد غير الله تعالى , وأنه مجرد مملوك لا يناسبه حتى قول (أنا) فضلاً عن الشعور بها ... إن حجاب الإنّية هو أكثف الحُجب وأعقدها حيث يحتجب القطرُ عن البحر , وممّا لا شك فيه هو أننا لا نلتفت إلى حجابيّة (الأنا) ....(بيني وبينك إنيي ينازعني) فإنّية النفس والذات مانعة عن الانفتاح على ذلك الأفق النوراني الذي لا يحدّه حدّ . إذن ينبغي أن يكون الهدف الأسمى هو العود إلى ذلك الأصل واندراج وانطفاء ذواتنا في طيّ الذات الواجبة –الله- كما تندرج القطرة في البحر, وهذا هو معنى الفناء الحقيقي للذات, فلا غضاضة بعد ذلك إذا ما سُئلت القطرة: ما أنتِ ؟ فتقول: أنا البحر!!
المصدر : العرفان الشيعي, كمال الحيدري,ص 252-253.
لاحظ قوله : (لا يرى العبد غير الله تعالى) وقوله (وعدم الالتفات إلى الذات) فهو نفس الوصف الذي وصف به حال الحلاّج والبسطامي حينما قالا: (أنا الحق) و (وسبحاني ماأعظم شأني)!
ثم تأمل في قول الحيدري: إذن ينبغي أن يكون الهدف الأسمى هو العود إلى ذلك الأصل واندراج وانطفاء ذواتنا في طيّ الذات الواجبة (الله) كما تندرج القطرة في البحر , وهذا هو معنى الفناء الحقيقي للذات , فلا غضاضة بعد ذلك إذا ما سُئلت القطرة : ما أنتِ ؟ فتقول: أنا البحر!!
إذاً لا غضاضة -عند العرفاء- إذا ما سُئل الحلاّج ما أنت؟, فقال : أنا الحق!
فليس عند الحيدري مشكلة في مقولة الحلاّج (أنا الحق) بل يعتبر هذا القول من المراتب السامية والراقية في العرفان!
ومما يؤكد مسلكه الحلاجي أنه استشهد بصدر بيت شعر للحلّاج في هذا المقام وهو قوله (بيني وبينك إنيي ينازعني)! ويعلق الكاتب في الهامش: هذا صدر بيت شعر وعجزه هو (فارفع بلطفك إنيي من البينِ) وهو من أشعار الحسين بن منصور الحلاّج!
المصدر : العرفان الشيعي, كمال الحيدري, هامش ص 252.
فهو يستشهد لبيان الفناء الذاتي بأشعار الحلاّج وأقواله وهذا يدل على أن عقيدتهم الأرقى هي عقيدة الحلاّج وكما عبّر عنها عارف آخر بأنها أعلى درجات العرفان!
المصدر : قدوة الفقهاء والعرفاء, تقي الموسوي, هامش ص235.
وأما إشكال كمال الحيدري الوحيد على الحلاّج هو كشف هذه العقيدة أمام الملأ حينما قال (أنا الحق) فوق رؤوس الأشهاد!
فيقول: إنّ الشطحات هي ضرب من كشف الأسرار التي لا يصح أن تعرض لأي أحد وإنما لابد من حصر الإفشاء بها إلى أهلها... كتمان السر هو من أوجب الشروط التي اشترطها العرفاء في السير والسلوك، وأن الإفشاء بها مخل بالهدف ومانع عن تحقيق المطلوب!!
المصدر : مراتب السير والسلوك إلى الله, كمال الحيدري, ص96.
والشطح عند العرفاء هو كشف السر لا أن الذي قاله الحلاّج أو البسطامي مخالف لعقيدة العرفاء.
*راجع  مقالتنا بعنوان (ما معنى الشطح عند العرفاء؟).
إن تصريحات العرفاء الحلاجية وتبرير أقوال الحلاج الكفرية والتفوّه بتلك الكلمات لا تنفع معها ترقيعات السيد منير  فقد اتسع الخرق على الراقع ولم يعد ينفع ترديد تلك التبريرات السخيفة فهي تجعل السيد منير عند المتلقي الواعي على أحد أمرين : إما أنه يمارس التقية مع المؤمنين ولا يصرّح بعقيدة العرفاء الحقيقية, وإما أنه يجهل مقامات عقيدة العرفاء ولم يستوعب حقيقة ما يعتقدون!

موقعية حديث:"ما رأيتُ شيئا" :
٣- يقول السيد منير الخبّاز: هذه المرتبة المسماة بالفناء هي التي يعبّر عنها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (مارأيت شيئاً إلا ووجدت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه)
أقول :
أولاً : لا يوجد في هذا الحديث الشريف الزيادات التي أضافها السيد منير: (فوقه وتحته وفيه)
نعم توجد كلمة (فيه) في بعض مصادر الصوفية أما (فوقه وتحته) لم أعثر على مصدر ذكرها بهذا اللفظ!
ثانياً: هذا الحديث الشريف (ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه) من الاحاديث المُتشابهة ولكنّ ظاهره يوافق القرآن الكريم فالله تعالى قبل كل شيء فهو الأول وبعد كل شيء فهو الآخر ومع كل شيء لأنه كما قال تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وإنّ مع الله تعالى معية إحاطة وعلم كما يقول الأمير عليه السلام (مع كل شيء لا بمقارنة) فهنا مولانا ينزه الله تعالى عن الوحدة مع خلقه! فلا اقتران بين الله تعالى وخلقه!
(وغير كل شيء لا بمزايلة) والزوال في اللغة هو التحوّل والانتقال والله تعالى منزّه عن ذلك لأنه من لوازم الجسمية.
فتلك موقعية الحديث عند أهل التوحيد فإنهم يقبلونه ويفهمونه بما يوافق الثابت المحكم.
أما القول بالوحدة بين الله تعالى ومخلوقاته فهو يناقض صريح كتاب الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
يقول السيد المدرّسي: روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: ((ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه)) وقد توهموا –العرفاء- أن معنى ذلك انتشار الله في الموجودات, وأن الكلمة تشبه ما قاله - مثلاً- القائلون بوحدة الوجود, من أننا نرى كل شيء في الله, ولا نرى شيئاً إلا وهو الله كما قال شاعرهم:
هو الواحد الكثير بنفسه **** وليس سواه إن نظرت بدقة
بدا ظاهرا بالكل للكل بيننا **** تشاهده العينان في كل ذرة
ولكنك ترى الفرق بين الحقيقة التي يشير إليها الإمام عنه نفسه, البالغة أسمى درجات الأولياء, والتي يدعيها الشاعر لكل ذي عينين, فبينما الإمام يرى الله بقلبه وببصيرة إيمانه من خلال أسمائه وآياته, فكذلك يراه في العلم الذي هو نور يقذفه الله في قلبه, ويراه في العين التي هي نعمة من الله, ويراه في العقل الذي هو أعظم خلق الله يهبه لمن يشاء من عباده, وبالتالي يرى الله ببصيرة إيمانه قبل كل شيء لأن العلم منه, وبعده لأن العقل منه ومعه لأن العين منه, ويرى الله قبله لأنه الأول, وبعده لأنه الآخر ومعه لأنه الظاهر, أقول بينما يراه الإمام علي عليه السلام هكذا, يتوّهم الشاعر أن كل شيء هو ذات الله, وأن العين - وليس القلب- تراه في كل ذره.
المصدر : العرفان الإسلامي, المدرسي, ص296.

إثبات مولانا الحسين عليه السلام للغيريّة:
٤- يقول السيد منير الخبّاز: وهذه المرتبة هي التي يعبّر عنها الحسين بن علي عليهما السلام في دعاء يوم عرفة الوارد عن الحسين عليه السلام (متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك عميت عين لا تراك عليها رقيباً وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من ودك نصيباً)
أقول : ذكرنا سابقاً الفرق بين كلام مولانا الإمام الحسين عليه السلام الذي يثبت الغيرية بين الله سبحانه وتعالى ومخلوقاته، وأنه مستغنٍ عنهم وهم محتاجون إليه وبين ما يدعيه العرفاء من عدم وجود الأشياء وأنّ وجودها وجود خيالي وأنّ ما نراه هو ظهور الله بصورها! تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
وقد قلنا أنّ من معاني الظهور في اللغة البروز , فعندما نقول فلان بارز في البلاد أو بارز في المجتمع نقصد أنه متفرّد عنهم، ومتمايز عنهم وعديم النظير, فظهور الله تعالى في خلقه يعني تمايزه عن خلقه تعالى وتفرده عنهم فاللفظ والتعبير على سبيل الكناية وقد وظفوه لمعنى لا يستقيم مطلقاً مع السياق! فهذا اللفظ فيه إثبات لغيريته ووحدانيته تعالى وليس العكس! بقرينة انّ مولانا الحسين عليه السلام يؤكد على ذلك بإثباته أن الله تعالى مستغنٍ عن مخلوقاته في إظهار عظمته فقال عليه السلام في نفس الدعاء: (أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهِرَ لك؟) فإنّ لله تعالى صفاتاً تميّز بها عن خلقه لذا هو مستغنٍ عنهم في الدلالة عليه! وأحد تلك الصفات استغناؤه المطلق عنهم واحتياجهم التام إليه تعالى. فما علاقة هذا بوحدة الوجود؟!
*وقد ناقشنا ذلك  بالتفصيل في الحلقة الثامنة من هذه السلسلة.

تأويل الآيات والروايات:
٥- يقول السيد منير الخبّاز: هذا المعنى من وحدة الوجود ليس معنىً مستنكراً بل هو ظاهر في عدة من الرويات والأدعية الشريفة.
أقول : ذكرنا سابقاً أنّ عجز العرفاء المتصوّفة عن إثبات معتقدهم بالدليل والبرهان دفعهم إلى تأويل الآيات والروايات لكي تتوافق مع معتقدهم الباطل (وحدة الوجود).
وتبين للقارئ الكريم من خلال المقالات السابقة بطلان نظرية وحدة الوجود، وقد فنّدنا تخرصات العرفاء وبيّنا سخافة توهماتهم التي زعموا بأنها براهين عقليّة.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
25/شهر رمضان المبارك/ 1436 هـ
طالب علم

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة الرابعة عشر"





لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير
" الحلقة الرابعة عشر"


مادة البحث:
لا نزال نواصل التعليق على ما ذكره السيد منير الخبّاز من معاني وحدة الوجود, وفي هذه الحلقة سنناقش بإذن الله تعالى النوع الثالث من تلك المعاني.
وكعادتنا في التوثيق نعرض أولاً محتوى المقطع المرئي لكلام السيد منير ونفرّغه نصياً ثم نعلّق عليه:
١- يقول السيد منير الخبّاز : المعنى الثالث لوحدة الوجود المقصود به أن الوجود الحقيقي لله عز وجل وغيره وجود مجازي وجود وهمي وليس وجوداً حقيقياً, ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام كما يحاول بعض العرفاء وبعض أهل المعرفة يقول: المستفاد من بعض النصوص ومنها هذا الدعاء الشريف الذي يقرأ في أيام شهر رمضان وهو دعاء (يامجير... تعاليت ياموجود) شنهو معنى (تعاليت ياموجود)؟ خوب كل الناس موجودين! ليش بس الله يقول له: تعاليت يا موجود؟ الإنسان هم موجود، والشمس هم موجوده، القمر هم موجود, لماذا يقول الامام عليه السلام في الدعاء (تعاليت ياموجود)؟ ماهو المقصود بقوله (تعاليت ياموجود)؟ المقصود به الوجود الحقيقي المحض لله عز وجل وما سواه وجودات وهمية، وجودات مجازية، وجودات خيالية وليست وجوداً حقيقياً، الوجود الحقيقي هو لله عز وجل فلا وجود لغيره ، هذا المعنى الثالث لمصطلح وحدة الوجود أن لاوجود لغير الله. هذا المصطلح بهذا المعنى يناقش فيه السيد الخوئي "قدس سره" في كتابه التنقيح في شرح العروة الوثقى. يناقش في هذا المعنى لهذا المصطلح ألا وهو مصطلح وحدة الوجود, يقول: ما معنى هذه الكلمة؟ يعني نحن عندما نقول: (لا وجود لغير الله, الله هو الموجود فقط غيره وجوده خيالي وجوده وهمي) ما معنى هذا الكلام؟ هل نقصد بهذا الكلام أنه لا وجود حقيقةً لغير الله؟, يعني احنا نتخيل أن احنا موجودين وحنا ما موجودين، نتخيل أن الشمس والقمر موجودة وهي ليست موجودة؟ إذا كان المقصود بهذا الكلام أن ما سوى الله وهمٌ وخيالٌ وليس موجوداً أصلاً فهذا الكلام سفسطة يتنافى مع شهادة الوجدان فإنّ الوجدان شاهدٌ على أن الإنسان موجود وأن الكائنات التي براها الله وأبدعها موجودة, لذلك هذه الكلمة المشهورة لديكارت (أنا مفكر إذاً أنا موجود)  التفكير حياة والحياة دليل على الوجود, إنكار وجود ما سوى الله، أن لا يوجد شيء الا الله وما سواه وهم أو خيال هذا يتنافى مع شهادة الوجدان.
هناك وجود، كما أن لله وجود للكائنات أيضاً وجود, وإذا كان المقصود بهذا الكلام أن الوجود المحض لله يعني وجود غيره وجود لكن مشوب بالعدم ، وجود الانسان مثلاً محدود في القدرة، محدود في العلم، محدود في الحياة, وجودٌ محاطٌ بالحدود من كل مكان. وجود الانسان وجود محاط بالحدود، في قدرته محدود, في حياته محدود, في طاقته محدود, بما أن وجود الانسان وجود محاط بالحدود فهو وجود ضعيف لا يستحق أن يسمى وجوداً, هو موجود في الواقع لكنه لضعفه لمحدوديته لايستحق أن يسمى وجوداً {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}
إذا كان الذباب يقدر على هذا الانسان (تؤلمه البقة تنتنه، العرقة تقتله، الشرقة) فهو وجود ضعيف جداً لا يستحق أن يسمى بالوجود, بينما الوجود الحقيقي هو الوجود المحض الذي لايشوبه حد ولا يشوبه ظلمة, علمه عين ذاته, قدرته عين ذاته, حياته عين ذاته لاحد لكماله عزوجل لا إله إلا هو الحي القيوم, فالوجود الحقيقي المحض له تعالى دون غيره، لذلك قال في الدعاء الشريف (تعاليت ياموجود) يعني يا موجود بالوجود المحض الذي لايشوبه ضعف ولاعدم ولانقص فإذا كان المراد بوحدة الوجود أن الوجود المحض الذي لايشوبه نقص ولا عدم خاص بالله عز وجل فهذا المعنى معنى صحيح. إذا كان المراد بوحدة الوجود هو هذا المعنى هذا المعنى معنىً صحيح بل لا يمكن إنكاره، بل هو من الضروريات في الدين.

هاتوا برهانكم:
يتحقق صدق إخبار الله تعالى بصفة من صفات أفعاله التي يَثبت صدق إخباره تعالى بأنها من صفاته الفعلية من خلال تحقق المفعول في عالم الإمكان, ومن تلك الصفات صفة (الخالق), فإن تلك الصفة تُثبِتُ وجوداً حقيقياً للمخلوق في عالم الإمكان.
ثم إن تنزّلنا من باب المجاراة للعرفاء وقلنا أن وجوده تعالى وحده هو الوجود الحقيقي وأننا وهم وخيال ولو في قباله تعالى كما يزعمون! فما جوابكم على السؤال التالي:
هل وصف الله تعالى وجود خلقه في مقابل وجوده بالوهم؟
إن الله سبحانه وتعالى عند الحديث عن وجود عباده في مقابل وجوده لم يذكر أبداً أنهم عدم أو وهم وخيال ولا حقيقة لوجودهم بل يصفهم بالذلة والفقر والعبودية كما في الآيات الشريفة والأدعية المأثورة عن آل رسول الله صلى الله عليه وآله كقولهم صلوات الله عليهم: (أنت الرب وأنا المربوب , أنت الغني وأنا الفقير ,أنت الخالق وأنا المخلوق) هذه وجوه المقابلة التي نعرفها فإن كان عندكم نص يقول: (أنت الحقيقة وأنا الخيال) فهاتوا برهانكم!
أين وصف الله تعالى مخلوقاته بأنها في مقابل وجوده وهم و خيال أو عدم حتى ولو بمعنى الوجود المشوب الناقص كما يقول السيد منير؟!
إنا نجد أن الله سبحانه وتعالى يصف نفسه بأنه خالقها فكيف تكون وهماً وخيالاً وهو خالقها؟!

مقابلة خاطئة:
٢- أما استدلال السيد منير بقول الإمام عليه السلام (تعاليت يا موجود)  وقوله بأنّ المقصود بهذا النص أن الوجود الحقيقي المحض لله عز وجل وما سواه وجودات وهمية، وجودات مجازية، وجودات خيالية وليست وجوداً حقيقياً, والوجود الحقيقي هو لله عز وجل فلا وجود لغيره...
أقول : إن من صفات الله تعالى (الرحمة) وكذلك رسول الله صلى الله عليه آله متصف بالرحمة! فهل يصح أن تقول بأن رحمة رسول الله في مقابل رحمة الله تكون قسوة؟! كلا لا تتمكن أن تقول ذلك لأن الله تعالى لم يصف رسوله أبداً سوى بالرحمة والرأفة.
قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
أنتم استخدمتم في المقابلة بين وجودنا ووجود الله الضدية والسلب! فتقولون إن وجود الله تعالى هو فقط حقيقة وإنّ وجودنا في مقابله وهم وخيال والحال أن الله تعالى وصفنا بأننا مخلوقاته ولم يصفنا بأننا وهم وخيال! لذا لا يصح في المقابلة بين وجودنا ووجوده تعالى استخدام الضدية والقول بأننا وهم وخيال!
نعم تصح تلك المقابلة بالضدية ولكن متى؟ فيما نحن بالفعل متصفون به كأن نقول علمنا في مقابل علم الله جهل فالإنسان عالم بالتعلم فهو يتصف بالعلم والجهل معاً.
قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}
فإذن الصحيح في المقابلة بين وجودنا ووجود الله هو القول أن وجودنا في مقابل وجوده تعالى وجود صغير حقير فقير وهو ما وصفنا الله تعالى به في مقابل وجوده الغني جل شانه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
ولو تأملت في وجوه المقابلة للدعاء الوارد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: (أنت الرب وأنا المربوب , أنت الغني وأنا الفقير ,أنت الخالق وأنا المخلوق) -والتي سنعرضها كلها- لن تجد بينها أنت الوجود وأنا العدم! أو أنت الحقيقة وأنا الخيال!
إن وجودنا هو وجود حقيقي فالله تعالى خالقنا, ويعرض علينا الفناء بالموت وهذا حق, وحتى فناؤنا في عالم الدنيا هو فناء جسدي فقط وإلا فلنا حياة برزخية بعد هذا العالم ولنا بعث ونشر فنعود بأرواحنا وأجسادنا الدنيوية ذاتها, لذا فإنّ من صفاتنا الزوال وهو في اللغة التحوّل والانتقال بينما من صفاته تعالى أنه دائم فلا يعرض عليه تعالى الزوال الذي من لوازمه التحوّل, تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
أما نحن البشر فنزول من عالم الدنيا ونتحول إلى عالم البرزخ والآخرة , فإذن وجودنا من حيث هو وجود يكون وجوداً حقيقياً وليس وهماً واختراعات خيال كما يقول الخميني وغيره من العرفاء!
لاحظ هنا كلام أمير المؤمنين عليه السلام: (مولاي يا مولاي أنت المولى وأنا العبد وهل يرحم العبد إلا المولى, مولاي يا مولاي أنت المالك وأنا المملوك وهل يرحم المملوك إلا المالك, مولاي يا مولاي أنت العزيز وأنا الذليل وهل يرحم الذليل إلا العزيز, مولاي يا مولاي أنت الخالق وأنا المخلوق وهل يرحم المخلوق إلا الخالق, مولاي يا مولاي أنت العظيم وأنا الحقير وهل يرحم الحقير إلا العظيم, مولاي يا مولاي أنت القوي وأنا الضعيف وهل يرحم الضعيف إلا القوي, مولاي يا مولاي أنت الغني وأنا الفقير وهل يرحم الفقير إلا الغني, مولاي يا مولاي أنت المعطي وأنا السائل وهل يرحم السائل ألا المعطي, مولاي يا مولاي أنت الحي وأنا الميت وهل يرحم الميت إلا الحي, مولاي يا مولاي أنت الباقي وأنا الفاني وهل يرحم الفاني إلا الباقي, مولاي يا مولاي أنت الدئم وأنا الزائل وهل يرحم الزائل إلا الدائم, مولاي يا مولاي أنت الرازق وأنا المرزوق وهل يرحم المرزوق إلا الرازق, مولاي يا مولاي أنت الجواد وأنا البخيل وهل يرحم البخيل إلا الجواد, مولاي يا مولاي أنت المعافي وأنا المبتلى وهل يرحم المبتلى إلا المعافي, مولاي يا مولاي أنت الكبير وأنا الصغير وهل يرحم الصغير إلا الكبير, مولاي يا مولاي أنت الهادي وأنا الضال وهل يرحم الضال إلا الهادي , مولاي يا مولاي أنت الرحمن وأنا المرحوم وهل يرحم المرحوم إلا الرحمن, مولاي يا مولاي أنت السلطان وأنا الممتحن وهل يرحم الممتحن إلا السلطان, مولاي يا مولاي أنت الدليل وأنا المتحير وهل يرحم المتحير إلا الدليل, مولاي يا مولاي أنت الغفور وأنا المذنب وهل يرحم المذنب إلا الغفور, مولاي يا مولاي أنت الغالب وأنا المغلوب وهل يرحم المغلوب إلا الغالب, مولاي يا مولاي أنت الرب وأنا المربوب وهل يرحم المربوب إلا الرب, مولاي يا مولاي أنت المتكبر وأنا الخاشع وهل يرحم الخاشع إلا المتكبر).
المصدر: مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام.
فهذه وجوه المقابلة كما ترى أخي القارئ فهل وجدت بينها انّ الأمير عليه السلام قال مثلاً : أنت الموجود وأنا العدم؟ أو أنت الحقيقة وأنا الخيال؟!

وهم وخيال على وجه الحقيقة:
٣- أما محاولة السيد منير الترقيع للعرفاء بأنهم لا ينكرون وجود المخلوقات بوصفهم لها بأنها خيال أو عدم إنما يقصدون أنّ وجود المخلوقات ضعيف جداً قبال وجود الله تعالى فلا تستحق أن تسمى وجوداً!!
أقول : تبين من خلال ما تقدم بطلان ما يدعيه العرفاء من أنّ وجود المخلوقات في قبال وجود الله تعالى وهم وخيال سواءً بمعنى ضعفها في مقابل وجوده تعالى او بالمعنى الذي يقصده العرفاء كما سيأتي بيانه.
أما قوله أنهم لا ينكرون وجودها فتصريحات العرفاء واضحة وصريحة في ذلك ويتجلى من خلالها انهم يقصدون بقولهم انّ الكون وهم وخيال انه كذلك على نحو الحقيقة. من ذلك ما ذكره الخميني في تعليقاته على الفصوص حيث يقول: (وهذا من الأسرار التي لا يمكن إفشاء حقيقتها والتصريح بها فالعالم خيال في خيال ووهم في وهم ليس في الدار غيره ديار)!
المصدر : الفصوص بتعليق الخميني , ص381.
ويقول الخميني أيضاً : لا وجود للظل أصلاً فوجوده وجود خيالي فإن الظل عدم تنور المحل عن نور المنير ولكن يتخيل أنه شيء مع أنه ليس بشيء كالعالم يٌتخيل أنه موجود وليس بموجود عند التحقيق العرفاني ألا كل شيء ما خلا الله باطل!!
المصدر : تعليقات على شرح فصوص الحكم ومصباح الأنس ، الخميني , ص149.
تلاحظ أخي القارئ أن الخميني يقول بكل صراحة (أن العالم وهم وخيال) ولم يقل لك (إن العالم متصاغر في مقابل خالقه)!
 ثم نقول أيضاً: هل الله تعالى يرضى أن تقول عن خلقه الذي أبدعه أنه مجرّد خيال ولا حقيقة لوجوده؟! قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} هو تعالى لم يصف خلقه بأنهم وهم وخيال!
ولكي تعرف لماذا قال العرفاء عن العالم  بأنه خيال ووهم تأمل في التصريح التالي:
يقول ابن عربي :
إنما الكون خيالٌ*** و هو حقٌ في الحقيقة
و الذي يفهم هذا*** حاز أسرار الطريقة
المصدر :فصوص الحكم ،ابن عربي, ص 159.
إن الكون هو مجرّد خيال وحقيقته أنه الله!! فلاحظ قوله: (وهو حقٌ في الحقيقة)! والحق كلمة يقصد بها المتصوّفة الله سبحانه وتعالى, ولذلك صحح العرفاء كلمة الحلاج الكفرية (أنا الحق) لأن الكون حق-الله- في الحقيقة، والحلاج هو كل هذا الكون وإن بدى ظاهرا جزءً منه وبالنتيجة هو الله والعياذ بالله!
وكلمة (أنا الحق) هي سر عقيدتهم لذلك يدعو ابن عربي مريديه بأن يصونوا هذا السر بقوله:
فمن فهم الإشارة فليصنها *** وإلا سوف يقتل بالسنانِ
كحلّاج المحبة إذ تبدّتْ*** له شمس الحقيقة بالتداني
فقال أنا هو الحق الذي لا*** يغير ذاته مر الزمانِ
المصدر: شرح وتحقيق ديوان الحلاج , هاشم عثمان,ص21, مؤسسة النور للمطبوعات, العلويون بين الغلو والفلسفة والتصوف والتشيع, الشيخ علي عزيز الابراهيم, ص256.
فالذي يمنع ابن عربي من التصريح كالحلاج بقوله (أنا الحق) هو الخوف من السيف فقط! وإلا فالحلاج مثله الأعلى!

السوفسطائية المؤسْلَمة:
٤- أما قول السيد منير: إذا كان المقصود بهذا الكلام أن ما سوى الله وهمٌ وخيالٌ وليس موجوداً أصلاً فهذا الكلام سفسطة يتنافى مع شهادة الوجدان...
أقول: تبين مما تقدم أن العرفاء يعتقدون بأن العالم وهم وخيال على وجه الحقيقة, وهذا الكلام سوفسطائية فارغة عند العقلاء لكنه عند العرفاء علم رفيع أداته هي السوفسطائية! ولكن السيد منير لم يستوعب حقيقة اعتقادهم لذلك يبرئهم من السوفسطائية بينما هم أنفسهم يفتخرون بسوفسطائيتهم ويقرون بها أداةً للمعرفة!
ويبدو لنا مع احترامنا للسيد منير انه هو في دفاعه عن العرفاء قد بدأ ينحو منحىً سوفسطائياً!
يقول ابن عربي: الحضرة الوجودية إنّما هي حضرة الخيال ثم تقسم ما تراه من الصور إلى محسوس ومتخيل، والكلّ متخيّل... ولا يقرب من هذا المشهد إلاّ السوفسطائية!
المصدر: الفتوحات المكية, ابن عربي,ج3 ص508.
ويقول حسن حسن زادة آملي :على أساس النظر الدقيق كل ما في دار الوجود يكون وجوباً، والبحث عن الإمكان يكون هزلاً ولعباً!
المصدر: ممد الهمم في شرح فصوص الحكم, حسن حسن زادة آملي، ص 107.
والأكثر صراحة من هؤلاء هو العارف صمدي آملي حيث يقول مفتخراً بالسوفسطائية: (وكم نشعر بالراحة أن نصير سوفسطيين من أول الأمر، ونقول ليس لنا أي ألف أصلاً، وما أعجب أنّه يجب علينا أخيراً أن نصير بأجمعنا في هذا الطريق سوفسطيين، ونقول إنّا لا نكون موجودين وكذا غيرنا، والموجود هو الله فقط، أول الكلام وآخره هو الله، والله هو الذي يشتغل بكونه إلهاً، وبعد ذلك فلا همّ للإنسان أصلاً ويستريح)!
المصدر: شرح نهاية الحكمة, داوود صمدي آملي,ص15.
فالقوم غارقون وسارحون في عالم الوهم والخيال ولا يعرفون سوى إله عالم الوهم والخيال وهم في الحقيقة رواد السوفسطائية المؤسلمة! نسأل الله السلامة والعافية.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
21/شهر رمضان المبارك/ 1436 هـ
ذكرى شهادة أمير  المؤمنين عليه السلام
طالب علم