السبت، 30 مايو 2015

لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير " الحلقة السادسة "


لله ثم للضمير وقفةٌ مع السيد منير
" الحلقة السادسة "

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم والعن أعداءهم
نواصل تعليقنا على الخطوات التي ذكرها السيد منير الخباز في سبيل اكتشاف النفس بوصفها المقدمة والطريق الموصل لاكتشاف حقيقة الله! وفي هذا المقال سنناقش بإذن الله تعالى الخطوة الثالثة من تلك الخطوات.
وكما هي عادتنا في التوثيق نطرح بين أيديكم أولاً مقطع التسجيل المرئي :
يقول السيد منير :  علمي بالأشياء التي حولي مرئية مسموعة ملموسة مشمومة كلها عن طريق الصور، هذا يسموه علم حصولي، حصول صورة الشيء في الذهن.
وهناك قسم آخر من العلم حضوري يعني حضور نفس الشيء لا صورة الشيء هو بنفسه يحضر مثل علمي بفرحي وحزني وأفكاري هذا ليس نتيجة صورة، هو فكري حاضر عندي، إذا أنا صنعت فكرة ففكرتي حاضرة بنفسها عندي، علمي بفكرتي علم حضوري وليس علم حصولي، لا نحتاج إلى واسطة، الصورة - الفكرة - حاضرة بنفسها عندي، هذا العلم الحضوري الذي نسميه العلم الوجداني، وهو المطلوب في علم العرفان، المطلوب هو هذا العلم لا العلم الحصولي لا الصور، المطلوب هو الوجدان.

أقول : إن العلم الحضوري الذي يقصده السيد منير وكما مثّل له بقوله (مثل علمي بفرحي وحزني وأفكاري) يوقع السيد في فخ التشبيه والقياس, فالله تعالى لا يقاس بخلقه تعالى عن ذلك علواً كبيرا.
إن ما ذكره السيد منير هو إشارة لما يعتقده العرفاء من إمكانية معرفة ذات الله سبحانه وتعالى في حال الفناء معرفة حضورية لأنه  أصبح جزء لا يتجزأ من الذات الإلهية!

يقول الطباطبائي (صاحب الميزان) : معرفة ذات الحقّ –الله- في حال الفناء ممكنة للمخلَصين والمقرّبين من عباد الله وهذا لا كلام لنا فيه وهو صحيح تماماً ولكن مهما بحثنا ومن أي طريق دخلنا فإن ضمير زيد لا يمحى ولا يزول.
فمن جهة أن زيداً صار فانياً –في الله-, وصار زيد هو –الله- أي أن هو –الله- صار قائماً مقام زيد, فلا شيء إلا هو –الله- , ولكن إلى أين ذهب زيد؟ فهذا لا نستطيع أن نقوله!
وإذا سألنا زيداً : من أنت؟ فلن يقول : أنا زيد , ولكنه يقول أنا الحق (أي هو الله) !
المصدر : الشمس الساطعة, الطهراني, ص259.

أقول : ارفع اسم (زيد) وضع بدله اسم (الحلاج) فيصبح النص بهذا الشكل :
الحلاّج فني في الله وصار هو الله ! الله صار قائماً مقام الحلاّج!
فحينما قال الحلاّج أنا الحق, ليس هو المتكلم بل هو الله! فالحلاج يشعر شعوراً وجدانياً أنه فانٍ في الذات الإلهية! فيعلم كنهها ويعرفها معرفة حضورية! مثل علمه بفرحه وحزنه وأفكاره!
 هذه هي المعرفة الحضورية التي يتكلم عنها العرفاء ولكن السيد منير (هداه الله) يعرضها للناس بشكل مبطن!

ذكرنا سابقاً ونكرر القول بأن الله تبارك وتعالى لا تُعرف "حقيقته" وكل من ادّعى ذلك يكون كافراً، وإنما يُعرف الله بمعرفة أوليائه وموالاتهم، وبمعرفة أعدائه والبراءة منهم، وكذلك عرفان الله، وتلك حقيقة الإيمان. وهذا ما جاء عن المعصومين عليهم السلام .
روى الشيخ الصدوق: خرج الحسين بن علي عليهما السلام على أصحابه فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه. فقال له رجل: يا بن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله ؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته.
المصدر: علل الشرائع / ج1 ص12 / باب9
وقد نهوا صلوات الله عليهم عن مجرّد التفكّر في ذات الله تعالى فكيف بادعاء معرفة حقيقتها؟! فإنّ الإنسان عاجز عن معرفة الحقائق التفصيلية لبعض مخلوقات الله تعالى كالجن والملائكة فهو بهذا عن معرفة حقيقة الله أعجز.
إن كل ما ورد من صفات لذات الله تعالى هي فقط لمعرفة صفاته تعالى بما هي صفات، وليس حقيقته وحقيقة ذاته فذاك مستحيل وممتنع عن العقل.
إن الله سبحانه وتعالى يورد صفات الجنة ولكنك مهما اجتهدت في أن تدرك حقيقتها لن تصل! (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فهذه الجنة فما بالك بخالقها!
إن ما يُذكر في القرآن الكريم من صفات الجنة هي أوصاف تطابق بالاسم فقط أوصاف جنان الدنيا وإلا فهي من حيث المصداق لا تعطيك تصوراً مطابقاً لحقيقة الجنة إطلاقاً.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: من تفكّر في ذات الله تزندق! وفي رواية أخرى: من تفكّر في ذات الله ألحد!
إن مجرّد التفكّر وهو يعني التأمل في ذات الله تعالى هو تزندق والمتأمل هو المتعمق.
فكيف بالعرفاء الذين يدّعون معرفة حقيقة الله  وأن معرفة ذات الله ممكنة في حال الفناء لأن العارف فانٍ في الله فحينما تسأله من أنت يقول أنا الحق أي هو الله!
فالمعرفة الحضورية التي يريد السيد منير الخباز إيصالها للناس هي أن تعرف أنك فانٍ في الذات الإلهية وحينما تدرك ذلك يحق لك أن تقول: (أنا الله) وقد بيّن ذلك كمال الحيدري في كتابه العرفان الشيعي فقال :
ينبغي أن يكون الهدف الأسمى هو العود إلى ذلك الأصل واندراج وانطفاء ذواتنا في طيّ الذات الواجبة –الله- كما تندرج القطرة في البحر , وهذا هو معنى الفناء الحقيقي للذات, فلا غضاضة بعد ذلك إذا ما سُئلت القطرة : ما أنتِ ؟ فتقول: أنا البحر!
المصدر : العرفان الشيعي, كمال الحيدري,ص 252-253.
فلا غضاضة -عند العرفاء- إذا ما سُئل الحلاّج ما أنت؟, فقال : أنا الحق!

يقول السيد منير : يعني أن أتعرّف على نفسي وعلى ضعفها وعجزها ومحدوديتها تعرفاً وجدانيا حضوريا بأن أشعر شعورا واضحا كما أشعر بالألم كما أشعر بالفرح، أشعر شعورا وجدانية بضعف نفسي وحاجتها وعجزها ومحدوديتها وأنها في تمام شؤونها هي عين الربط والتعلق بالله عز وجل يجب أن يتحول هذا إلى شعور ووجدان ... وإذا أدرك الإنسان ذلك إدراكا وجدانيا أدرك ربه إدراكا وجدانية.

أقول : وهنا أيضاً وقع السيد منير في فخ التشبيه والقياس فالله تعالى لا يقاس بخلقه تعالى عن ذلك علواً كبيرا. أنا تعلّقت برحمة الله تعالى منذ أن ذرأني لكن الله تعالى ليس متعلقاً بخلقه أبداً وهذا هو الخطأ الفادح الذي لم يلتفت إليه السيد حين دخل في متاهات القياسات الباطلة.
وقد بيّنا سابقاً أن هناك فرق بين أن تقول إن وجود شيء متعلّق بوجود الآخر وبين أن تقول بوجود وحدة بينهما! فالوحدة تعني أن المجال بين الوجودين مجال مشترك! وتعالى الله عن ذلك علواً كبيرا!(*)
(*) راجع تعليقنا على هذه الجزئية في الحلقة الخامسة.

يقول السيد منير : نحن الآن ندرك ربنا إدراك صوري، أنت الآن عندما يقال لك الله تصير عندك صورة إلى الله، حقا لا تقدر تحديد معالم هذه الصورة، لكن تتكون عندك صورة إلى الله، الله صارت صورة في ذهنك، أما الذين عرفوا أنفسهم معرفة وجدانية فإن معرفتهم بالله ليست عبر الصور، لا، بمجرد أن يمر ذكر الله يشعرون بلذة النور في أنفسهم، هناك نور له لذة، له طعم خاص، له نكهة خاصة يشعرون ضمن أنفسهم.

أقول : النور ما هو إلا مادة, فالضوء يتكون من جسميات مادية دقيقة تسمى الفوتونات .
فهؤلاء العرفاء حسب كلامكم أيضاً تنبعث من داخل ذواتهم صورة وجدانية لجمالها  لذة يستشعرونها, فمعنى كلامكم أن مشاعرهم جوهرها يرتبط في خصائصه بخصائص عنصر
"مادي" وهو الضوء! , فبهذا لا تنفك المادة ولو  بخصائصها عن العرفاء حال ذكر الله جل وعلا فهم من هذه الناحية حال سائر الناس حسب كلامكم.
الأمر الآخر هو أنَّ مفاد كلامكم هو أنَّ العرفاء عند ذكر الله تنبعث من ذواتهم صورة إيمان نورانية ذات جمال يستلذونه, أما العوام ترتسم في أذهانهم صورة غير محددة المعالم حسب زعمكم.
عندما يطرق مسمع أحدهم لفظ الأم, فليس بالضرورة أن ترتسم صورة الأم في مخيلته ارتساماً ارتكازياً, بل ينبعث من داخله شعور بنورانية الحنان, وهذه المشاعر لابد مرتبطة بصورة مشهد معين مر مروراً لحظياً, فهناك صورة ذهنية من الأصل.
العارف أيضاً كذلك, إذا قلت أن الناس كلهم ترتسم في بالهم صورة غير محددة المعالم فالعارف كان في يوم من الأيام على هذا الحال قبل أن يرتقي ويصبح عارفاً وفق منهجكم.
وبهذا فإن انتقاله إلى الطور الجديد لن ينفك عن مرور الصورة القديمة الأولى في ذهنه ولو مروراً سريعاً لحظياً فينبعث نتيجة لذلك شعور بالنفور من ذلك التصوّر  فيفضي إلى انبعاث صورة بحسب معتقدهم هي إيمانية نوارنية نابعة من النفس.

يقول السيد منير : الله ليس صورة وإنما الله نور حاضر مسيطر على القلب،{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، فئة خاصة هم الذين هدوا إلى النور أي شعروا به شعورا وجدانيا {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}.

أقول : إن العرفاء يؤولون الآيات والروايات بما يوافق عقائدهم الباطلة بينما نحن نرجع في فهم الكتاب إلى العترة الطاهرة عِدل القرآن.
روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قول الله عز وجل: " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " فقال: هو مثل ضربه الله لنا، فالنبي والأئمة صلوات الله عليهم من دلالات الله وآياته التي يهتدى بها إلى التوحيد، ومصالح الدين وشرائع الإسلام والسنن والفرائض، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المصدر: التوحيد , الشيخ الصدوق, ص157.
يقول العلامة السيد قاسم علي أحمدي : إنّ المراد بها أنّه تعالى هادٍ لأهل السماوات والأرض، كما ورد تفسيرها بهذا المعنى في الأخبار، مثل : ما رواه الصدوق رحمه الله في التوحيد مسنداً عن العباس بن هلال، قال : سألت الرضا عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : {اللّه نور السماوات والأرض} فقال : (هادٍ لأهل السماء وهادٍ لأهل الأرض) .
وفي رواية البرقي : (هدى من في السماوات وهدى من في الأرض ) .
وفى حديث : (هادي من في السماوات ، وهادي من في الأرض ) .
وأيضاً في حديث عمران قال : يا سيّدي ! فأيّ شيء هو ؟ قال عليه السلام : (هو نور بمعنى أنّه هادٍ لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض)
وذكر الصدوق رحمه الله في باب أسماء اللّه تعالى ( النور ) وقال : النور معناه المنير، ومنه قوله تعالى : (اللّه نور السماوات والأرض) أي : منير لهم وآمرهم وهاديهم ، فهم يهتدون به في مصالحهم كما يهتدون في النور والضياء، وهذا توسّع ؛ إذ النور : الضياء ، واللّه عزّ وجلّ متعال عن ذلك علوّاً كبيراً ؛ لأنّ الأنوار محدَثة ومُحدِثها قديم لا يشبهه شيء .
المصدر : تنزيه المعبود في الرد على وحدة الوجود, السيد قاسم أحمدي, ص417.

ألا يعلم هؤلاء أنّ الله تعالى يضرب محض مثال لأفعاله ولمخلوقاته ؟
مثلاً : إحياء الموتى مثّل الله تعالى له بمشهد صوّرَهُ لنا تعالى في سورة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
وعندما مثّل الله تعالى لعيسى عليه السلام قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
وأيضاً مثّل الله تعالى لمخلوقاته:{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}
لكن الله تعالى عندما ذكر ذاته المقدسة قال:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}
فلاحظ أن الله تعالى عندما أتى بمفردة المثل مقترنة بذاته المقدسة لم تأتِ بمعنى الشبيه والنظير وإنما جاءت بمعنى الصفة أو الحجة, أي فلله تعالى الصفة العليا والمثل الأسمى أو ولله الحجة العليا.(*)
*راجع في ذلك كتب التفسير .
 فالله تعالى لم يشبّه أو يمثّل لذاته المقدسة بشيء أبداً, بل قال جلّ شأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
لم يقل تعالى: الله (عين) نور السماوات والأرض أو الله (ذات) نور السماوات والأرض أو الله (نفس) نور السماوات والأرض!
قال تعالى { مَثَلُ نُورِهِ} ولم يقل (مثل ذاته) والنور شيء والذات شيء آخر.
ففي لغة العرب درج عندهم إطلاق المصدر (الصفة) كناية عن كثرة وغلبة الفعل كما ورد في كتب التفسير كمجمع البيان, وهذا كقولهم فلان رحمة وفلان عذاب إذا كثُرَ فعل ذلك منه, وعلى هذا قول الشاعر:
ألم تر أنّا نور قوم وإنما** يبين في الظلماء للناس نورها .
وكذا قول أبي طالب في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، * ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
حينما تقول ( فلان جُودُ العشيرة) كناية عن مداومته على فعل الكرم والعطاء.
الله تعالى ينوّر السموات والأرض بالشمس والقمر ظاهراً، وتأويلاً ينوّرها بهداته والأدلاء عليه محمد وآله الأطهار صلوات الله عليهم، فلغلبة الفعل عبّر الله تعالى بالصفة محل الفعل، وهذه أيضاً يمكن أن تكون نسبة تشريف كقولنا عن الكعبة (بيت الله).
فلم نعلم بالهوى أن المقصود هو فعل التنوير, بل لأننا قرأنا قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فكيف يصف ذاته تعالى بأنه لا شيء مثله ثم يمثل لذاته؟
كلا وإنما المقصود هنا هو فعلُ التنوير.

الخلاصة:
تبيّن من خلال ما تقدم بطلان الطريق الثالث الذي رسمه العرفاء لمعرفه حقيقة الله, وقد عرضنا  بعض نصوصهم ورددنا على شبهاتهم .
ثم عرجنا على الآية التي يستدل بها العرفاء على الوحدة وبيّنا بأن ذلك مخالف لِما ورد عن أهل البيت عليهم السلام من تفسير للآية الكريمة.
هذا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
طالب علم
20/جماده الآخر/1436هـ